هناك حقيقة ثابتة في كل مجالات الحياة الإنسانية، هي أنه لا نتائج بلا مقدمات، مهما كانت النتائج مهولة، ومهما بدت المقدمات بسيطة أو متناثرة، الحصاد دائمًا مرهون بالفعل والحركة وبدرجة ما بعوامل أخرى كثيرة ثانوية، مثل المعرفة والإتقان والتنظيم، لكننا أمام فكرة بسيطة صاغها عدد من الفلاسفة أولًا، وتستخدم حديثًا في علوم الإدارة والفيزياء والفلسفة والأدب والأرصاد وغيرها.
وأثر الفراشة، أو نظرية الفوضى، هو تعبير عن قدرة حدث بسيط على إحداث موجة متتالية وطويلة من التغيرات في مجال عمل واسع، بالتأثير على عدد من الأحداث وصولًا إلى تغييرها، وأخيرًا الحصول على نتائج ضخمة من حدث أولي قد لا يكون حظي بأي اهتمام، والاسم المجازي لتلك النظرية هو “أثر الفراشة” وهو تعبير عن المثل التوضيحي لها في الكتابات المبكرة، وهو أن رفرفة جناح فراشة في الصين قد تنتج عنه رياح وفيضانات وأعاصير في أميركا وأوروبا وإفريقيا.
ويعود الفضل إلى الفيلسوف الألماني فيشته في صياغة تلك الفكرة النظرية في أكثر تعريفاتها بساطة وإيجاز. في عام 1880 كتب فيشته لا يمكنك إزالة حبة رمل من مكانها دون تغيير شيء ما عبر جميع أجزاء الكل اللا محدود، إلى أن صاغها عالم الرياضيات والأرصاد الأميركي إدوارد نورتون لورنتز، عام 1963، في ورقة بحثية بعنوان “التدفق الحتمي غير الدوري – رفرفة جناح الفراشة”.
2..
في هذه الأيام المباركة، التي تدفع بأجوائها وقدسيتها ومناخها العام إلى المزيد من الارتباط والتفكر بالمأزق الحالي، خروجًا من حالة الإحباط التي تسود الوضع الاقتصادي والسياسي العربي، تبدو فكرة “أثر الفراشة” أكثر ما يغازل الذهن والعقل في آن، فالفكرة التي صاغها الغربيون، والتي ارتكزت على المادة والحساب، هي خط ثابت ممتد في تاريخنا العربي والإسلامي، عبر معنا وبنا أكثر اللحظات صعوبة وأخطر الظروف المغلقة.
كثيرة هي اللحظات التي كان اليأس فيها سيدًا وعنوانًا ومسيطرًا، ويشهد التاريخ أنها أيضًا كانت أكثر لحظات الأمة ألقًا وعظمة، في القديم والحديث، كان عامل واحد قادرا على قلب كل المقدمات وكسر كل الحدود القائمة، بشكل تعجز عن تخيله حدود التفكير أو مصفوفات المنطق، كانت تلك لحظات الاختيار وأوقات الإنجاز.
ومنذ غزوة بدر، في 17 رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية، فقد شهدت الأمة الإسلامية أعظم تجليات فعلها الإيماني رغم قلة العدد والإمكانيات، وضعف المقدمات والتي غالبًا ما كانت تمثل وقودًا للأرواح نحو طريق النصر الإلهي. في كربلاء تكرر انتصار الحق بمخاصمة كل معادلات الفعل في التاريخ الإنساني المعروف، وإلى اليوم لا يزال يوم العاشر من محرم واحدا من أيام الله، التي تشهد على نصرٍ مستمر ومذهل.
ومن الماضي إلى الحاضر، كان التاريخ على موعد مع ولادة حزب الله في لحظة بدت قاتمة، عقب سقوط النظام المصري في فخ العار والاستسلام للعدو الصهيوني، وقرار اجتياح لبنان لإنهاء محاولات المقاومة الفلسطينية في إنشاء جبهة جديدة ساخنة على حدود الاحتلال، وبلغ التبجح بقادة العدو، وعلى رأسهم شارون، إلى القول إن فرقة موسيقية تستطيع الوصول إلى بيروت.
بعد سنوات من المحاولة الصهيونية لغلق جبهة قد تحمل خطرًا مستقبليًا، وبمعطيات كانت بالكامل تصب في معادلة انتصار العدو بلا أدنى شك أو حساب، فإن الوضع صار بعد 40 عامًا من عام 1982 جبهة ستحمل النهاية للعدو، جبهة لا يتجرأ على أن يحلم بتصفيتها أو استبعادها من معادلات القوة العربية، جبهة تمثل التهديد الوجودي والنهائي للكيان كله.
برعم المقاومة الذي نبت في هذا التاريخ البعيد، كان أقوى وأقدر على الفعل والإنجاز من جيوش وأنظمة اختارت طريق المهانة والمهادنة. برعم المقاومة الصغير كان أكبر وأعظم من دول كانت كبرى في منطقتها، دول سقطت حتى قبل أن تُهزم. برعم المقاومة كان ينتمي للأرض العربية أكثر من حكومات هانت وخانت وهربت، واليوم امتدت الفكرة العظيمة إلى كل من يطمح إلى تغيير واقعه وكسر دائرة السيطرة الصهيوأميركية على مجتمعاتنا.
3..
حين وقعت واقعة تفشي جائحة “كورونا”، كانت الدول العربية بأكملها في أسوأ وضع ممكن لمواجهة تحد هائل مثل هذا، لا تمتلك الدول العربية الإمكانيات، ولا تتمتع بقيادة سليمة الفكر قوية الأعصاب، والأهم أننا أمة فقدت الإرادة فيما يخص مواجهة تحدياتنا على مستوى وطني شامل، وتركت ندوب الهزائم السابقة جروح الخيبة مفتوحة في الجسد العليل، حتى قبل أي أزمة.
لا صناعة متطورة ولا زراعة كانت قادرة على منح الشعوب العربية أجنحة مساندة في عز الأزمة، حتى تلك الدول التي بدأت نهضة صناعية في منتصف القرن الماضي، مثل مصر وسوريا، فقد عصفت الأحداث الخارجية أو خيارات الأنظمة الحاكمة بقاعدتها الصناعية التي كانت تمتلكها يومًا ما، وتركت الكل مستوردًا صافيًا لكل شيء، من الغذاء إلى الكساء والسلع وحتى الأدوية.
وفي المواجهة الصعبة، كانت الديون هي العلامة الفارقة والحل الوحيد لتعامل الأنظمة العربية مع الأزمة الناشئة عن التداعيات المالية للقيود الصحية التي أعقبت تفشي كورونا، ويقول البنك الدولي في “التقرير العالمي لإحصاءات الدين”، والصادر في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، إن الديون الخارجية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت ارتفاعًا مطردًا بنهاية عام 2020، لتسجل 370 مليار دولار، بزيادة 8.5% عن ديونها في عام 2019.
واليوم وصلنا إلى منتهى طريق التراجع وآخر سبيل المساومات والتردد والخوف من إغضاب الأميركي، بواقع هو أسوأ من أسوأ كابوس، وأدى اهتزاز الأسواق العالمية نتيجة أزمة الحرب الروسية في أوكرانيا إلى ضرب كل أوهام التعافي الاقتصادي الهش، والذي كان يغلف الخطابات الوردية لمسؤولي الدول العربية، ويحاول أن يصنع واقعًا موازيًا ومزيفًا على ألسن الوزراء والحكام.
جاءت الضربة الجديدة للتجارة العالمية بالضبط في موضع القتل من القلب العربي، فأسعار الطاقة والغذاء تشهد ارتفاعات متتالية وغير مسبوقة، كشياطين انفلتت فجأة من عقالها، وموجة التضخم الجديدة والهائلة قد تزامنت مع موجة موجودة سلفًا من تداعيات أزمة كورونا، ونسب الفقر في كل الدول العربية –بغير استثناء- قد تفوقت على أقصى التقديرات تشاؤمًا.
والأخطر في الواقع العربي الحالي أن أية دعوة نظرية للحل أو العمل، ومهما بدت وجاهتها أو كشفت الأيام عن الحاجة إليها، فإنها قد تخرج وتعود دون أي رد فعل، وبفعل أطنان الأكاذيب التي تلقى يوميًا على أسماعنا من نظم حاكمة وإعلام لا يرى إلا ما يرى الحاكم، فإن حالة النقاش والجدل الخلاق في المجتمعات قد تعطلت، وتحول أي حديث يرتب مطالب إلى سبب جديد للاحتقان والرفض المبدئي، وبالتالي بات نموذج الإفلاس الذي يواجه لبنان المصير العربي الوحيد المنطقي.
4..
في وسط كل الآثار السلبية والتداعيات المأساوية للأحداث العالمية، وللبنية الاقتصادية العربية، فإن السعي إلى حل هو بالضبط حلم بمعجزة، تستطيع إيقاظ كل مصادر القوة الكامنة في المجتمعات، وترجمتها فورًا إلى أرقام ومعطيات في معادلة الخروج من الوضع الراهن، بأقصى سرعة وبأكبر قدر ممكن من التفاؤل.
لكن كيف السبيل إلى الخروج، والإعلام الذي يفترض به صناعة الوعي يشيطن النموذج الوحيد الناجح في هذا الواقع الساقط كله، ويحاول أن يغرز مخالب الشك في فعل مقاوم هو انتصار آخر كبير، وعلى جبهة تشهد الحرب الحقيقية اليوم.
لا يزال إعلام البترودولار والأبواق المرتبطة به، عربيًا ولبنانيًا، يخوض حربه غير المقدسة ضد مؤسسة القرض الحسن، والتي فرضت وجودها على لبنان بفعل ما تقدمه للمجتمع، في ظل ظروف قاسية، زادها تراجع الدولة وعجزها من البؤس المرتبط بحال المواطن العادي، الذي وجد في فلسفة “بنك الفقراء” البديل الأفضل والحل لأزماته المعيشية، دون استغلال أو محاباة من مؤسسات البنوك.
ويكفي للتدليل على ما تقوم به المؤسسة المقاومة، أن جهودها وانتشارها لم يدع للبنك الدولي إلا أن يصنفها كأهم مؤسسة تقدم القروض الصغيرة لكل المواطنين في كامل لبنان، في إشادة نادرة تعكس واقعًا لم يعد من الاعتراف به بد، وفي ظل ظروف صعبة تشهدها المنطقة العربية كلها، وفي القلب منها لبنان.
ومع الإعلان اللبناني عن الإفلاس، وبموازاة تحقيقات في 3 دول أوروبية (فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ) عن فساد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وما يدور حول تجميد مئات الملايين من الدولارات بحساباته، والقضايا التي يتم التحقيق فيها وتتعلق بتهم غسيل أموال واختلاس أموال عامة في لبنان بين عامي 2002 و2021، فإن الدعوة تتجدد إلى دعم النموذج الوحيد الناجح في منظومة العمل المصرفي في لبنان، مؤسسة القرض الحسن.
ولا يتعلق الدعم فقط بالمؤسسة أو حتى بحزب الله، بل يتعلق هنا بإثبات القدرة على الفعل والإنجاز، وبناء نموذج مغاير ويعادي الهيمنة ويخرج بالحل من رحم المجتمع ومن بيئته، فهذا النموذج هو الوحيد القادر على مواجهة محاولات كسر الإرادة الوطنية وطمس الهوية والعقيدة، وتصدير الإحساس العام بالفشل والإحباط، وصولًا إلى زرع الهزيمة داخلنا، وتقبل فكرة أننا لا نقدر على عبور تحدياتنا.
أحمد فؤاد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال