تعيد المستجدات الدولية منذ بروز النوايا المستندة إلى القدرة على تغيير النظام العالمي أحادي القطبية، الاعتبار لمفهوم الفخ التاريخي، والذي يمكن تلخيصه بسير الأمور على عكس ما هو مخطط لها.
ولعل أمريكا وقعت في فخ تاريخي كبير عندما استخدمت العولمة كأداة للهيمنة، فوصلت الأمور لبروز الصين كأحد أكبر المستفيدين من العولمة وتهيئة الظروف للتحول لقطب عالمي اقتصادي مهدد للعرش الأمريكي.
كما وقعت أمريكا في فخ تاريخي آخر عندما استهانت بقطب سابق وهو الروس، فحاولت إهانتهم وتضييق الخناق عليهم في محيطهم الحيوي لقطع الطريق على أن تقوم لروسيا قائمة قطبية جديدة، ففوجئت بتحد روسي وإعدادات طويلة المدى للحظة المواجهة، والتي تزامنت مع محاولة أمريكا والناتو خرق أكبر خط أحمر للروس في أوكرانيا، لتتحول روسيا، تزامنا مع لحظة انطلاق العملية العسكرية، الى قطب عسكري مهدد للعرش الأمريكي.
ولا تقتصر الفخاخ هنا على العناوين الكبرى للصراعات، بل تصل إلى تفاصيلها، حيث تحولت سياسة العقوبات الأمريكية إلى مسار آخر غير ما خُطط له أميركيًا، فبدلا من إضغاف خصوم أمريكا وحصارهم، تحول الأمر لتكتلات مناهضة لأمريكا ومنظمات ومشروعات لأنظمة نقدية بديلة.
وبالدخول للإقليم، نجد أن العدو الصهيوني، بعد تراجع هيبته ورضوخه للمقاومة والاستسلام لمعادلاتها، يحاول استعادة هيبته المفقودة بالاستقواء على الشعب الفلسطيني، ويحاول رئيس وزراء العدو يائير لابيد والذي يعاني من عقدة انعدام التاريخ العسكري وكونه ليس جنرالا، بل مراسل عسكري، يعاني أيضًا من مزايدات بنيامين نتنياهو ووصفه بالضعف والتفريط، أن يثبت للصهاينة أنه الرجل القوي بالاقتحامات والقتل والأسر وإفساح المجال للمتطرفين بتغيير المعادلات في الأقصى والتعمق في سياسة التهويد.
ويتمثل الفخ هنا، في أن هذه السياسات تفجر طاقات الغضب الفلسطينية وتخلق حركات جديدة للمقاومة وفي أماكن لم تشتهر بكونها بؤرة للمقاومة، وظن العدو أنه قد أمّمها ونجح في تهويدها وإخضاعها، وبالتالي قاد العدو نفسه لحصار بين سندان توازن الردع ومطرقة الغضب الفلسطيني.
وكذلك الدول التي شكلت كيانات وظيفية لخدمة الاستعمار مثل السعودية، والتي أساءت استخدام نفوذها في العديد من البلدان، وخاصة لبنان، عندما تعمدت إهانة لبنان بما فيه حلفاؤها مثل سعد الحريري، ورعاية شخصيات مثيرة للجدل وتاريخها مخز لدرجة تؤلب عليها أغلبية الشعب اللبناني.
وهنا تتعرض السعودية لفقدان كامل نفوذها، وربما ما يحدث بمؤتمرات للفرقاء مثل مؤتمر سويسرا، مقدمة للإطاحة بالنفوذ السعودي، وهو ما فجر الغضب الرسمي السعودي وورط المملكة في تصريحات تعكس تبييت نية رعاية الفوضى ولو ارتدت ثوب الحرص على الطائف.
وفي سوريا، وبعد محاولة إعادة إحياء “داعش” وعودة التوظيف لورقة الإرهاب لاستهداف الدولة بدلا من المواجهات المباشرة، قادت هذه الخطوة لإعادة الزخم للتنسيق الروسي السوري وتطوره لمستويات جوية وبحرية تتجاوز نطاق محاربة الإرهاب لنطاقات أخرى تقترب من تشكيل معادلات ردع لأمريكا والعدو الإسرائيلي.
اللافت في فخاخ التاريخ أن محاولة تجنبها يقود لمزيد من التورط والحمق، ولعل الأصوات التي بدأت تعلو في الكيان الصهيوني لتنادي بحتمية الحرب مع ايران وسوريا وحزب الله، هي مصداق لهذا التورط المتزايد.
وهنا يمكن إلقاء الضوء باختصار على مضمون مقال لمستشار الأمن القومي السابق للكيان الصهيوني، الجنرال “يعقوب ناجل”، والذي نشر مقالا يطالب فيه بحتمية المواجهة مع إيران والمقاومة. وقال ناجل إن الأمثلة الأخيرة لشحنات الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا تُظهر المشكلة التي يمكن أن تواجهها “إسرائيل” إذا وضعت إيران يديها عليها لو وقعت في يد الروس وبسبب التعاون الروسي الإيراني ستصل لأيدي الإيرانيين.
وضرب مثلا لمخاوفه بشحنات الرادارات متعددة المهام وأنظمة الاستطلاع والاتصالات الآمنة ومعدات التخلص من الذخائر وأنظمة المدفعية الدقيقة (نظام إطلاق الصواريخ المتعددة الموجه) والمزيد.
كما طالب “إسرائيل” أيضًا أن تنظر في تحول نحو مبدأ الرئيس السابق رونالد ريغان، الذي استخدمته الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، حيث نبذ ريغان سياسة الاحتواء، وبدلاً من ذلك تبنى برنامجًا شاملاً وظف جميع الموارد المتاحة لإضعاف موسكو ومنع توسعها، وقد نجحت.
وهنا يوصي الكيان على الحدود الشمالية، بتجاهل العقيدة التي بموجبها يهاجم فقط الأراضي السورية بينما يسمح لحزب الله بمواصلة بناء قدراته عالية الدقة بلا هوادة، ويوصي نصا بأنه “يجب أن تستمر إسرائيل في شن ضربات في سوريا ولكن أيضًا في لبنان ـ حتى مع وجود خطر التصعيد ـ من أجل ضمان ألا يغير دعم روسيا لإيران ووكلائها الإقليميين الواقع بشكل أساسي”، وفقا لقوله.
ويختم بالتوصية بأن تجد “إسرائيل” شركاء إقليميين في النضال ضد إيران. ولا ينبغي أن يكون تغيير النظام هو الهدف المباشر، لكن يكفي أن تحشد الأطراف المعنية مواردها لإضعاف النظام الإيراني حتى لا ينخرط في أعمال استفزازية تحت حماية صفقة نووية معيبة للغاية، حسب زعمه.
ولو كان هذا المقال مجرد مقال للرأي لكاتب صحفي أو مسؤول حزبي، لقلنا إنه رأي دعائي، أو لا يشكل دلالة على توجه عام، ولكن لكونه مقالًا في صحيفة صهيونية كبيرة وهامة وأكبر صحيفة من حيث التوزيع وهي “اسرائيل هيوم” ولجنرال عمل مستشارا للأمن القومي، فبالتالي هي رسالة من جهات صهيونية وازنة، وهو ما يستوجب الانتباه والاهتمام والجهوزية.
ولعل هذه الدعوات هي مصداق لتداعيات الوقوع في فخاخ التاريخ حيث تتورط الأطراف بها في المزيد من الحماقات والمزيد من التورط.
إيهاب شوقي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال