على الرغم من كل الإجراءات الأمنية والعسكرية التي انتهجتها وتبنتها مؤسسات الكيان الإسرائيلي في الآونة الأخيرة ولاسيما بعد إقدامها على شن عدوان جديد على غزة وتصاعد وتيرة اللجوء لسياسات الاغتيالات والاقتحامات التي شهدتها مؤخراً مدينة نابلس وأدت لاستشهاد ثلاثة مقاومين من كتائب الأقصى، فضلاً عن دعم المستوطنين والسماح لهم باقتحام حرمة الأقصى بذريعة ممارسة طقوسهم الدينية المزعومة، لم تستطع تكريس الواقع الأمني الذي تسعى هذه المؤسسات لفرضه بالقوة. حيث جاءت عملية القدس ليس كرد نوعي وموجع على السلوكيات الصهيونية العدوانية لتحقيق مكاسب انتخابية ولاسيما من رئيس الحكومة الحالي يائير لابيد، الذي اقتحم بازار القتل لإظهار نفسه كشخصية صهيونية متطرفة بغرض كسب أصوات اليمين المتطرف، بل لتسقط الوهم الصهيوني في إعلاء مفهوم الأمن على جميع المستويات.
حيث استطاع أمير صيداوي، وهو شاب من أهالي حي سلوان المقدسي، أن يوجه صدمة جديدة هذا العام بعد خمس عمليات شهدها الداخل المحتل ما بين شهري آذار وأيار، أدخلت المنظومتين الأمنية والعسكرية المتصدعة في إسرائيل بدائرة موسعة من الحيرة والتخبط، نتيجة فشل استخباراتها في ضمان مقومات الأمن القومي لإسرائيل.
إذ تعد نظرية الأمن الإسرائيلي وضمانها تاريخياً مسألة وجود حسب وصف بن غوريون، أول رئيس حكومة إسرائيلي، وتمثل الشغل الشاغل لكل المؤسسات والأحزاب والقوى الإسرائيلية، وهي النواة الدافعة لهم في تبني استراتيجياتهم وبناء عقيدتهم، ولخدمة ذلك سعت إسرائيل في جميع مراحل وجودها للحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة وقامت بتأسيس أجهزة استخبارات معقدة ومنحتها صلاحيات مطلقة لتحقيق الاستقرار الداخلي مقابل نشر الفوضى المحيطة، وهو ما دفع بعض الصهاينة المتطرفين للتبجح في زعمهم بالقول: «إن إسرائيل تستطيع ببعض دقائق أن تخل أمن المنطقة من أجل الحفاظ على أمنها القومي»، لذلك تعد مسألة الأمن مرتبطة بشكل مباشر بمسألة الوجود.
وبالعودة لأهمية عملية القدس الفدائية التي حصلت مؤخراً، فإنها ومن دون أدنى نقاش تضمنت جملة من الدلالات والمعاني المرتبطة بأمن إسرائيل الذي يشهد تآكلاً ملحوظاً، تبلورت في النقاط التالية:
– من نفذ العملية هو شاب مقدسي ليس لديه أي تاريخ قتالي ولا ينتمي لأي خلفية حزبية ولم يتلق أي تدريب في أي معسكر من معسكرات المقاومة، ولكنه استطاع خرق المنظومة الأمنية الإسرائيلية وكسر كل الإجراءات المشددة وأطلق عشر رصاصات في أقل من 17 ثانية وأصاب 10 أشخاص، وهو ما يشير لدرجة الاحتقان الذي وصل إليه الشعب الفلسطيني والتي قد تدفع كل واحد منهم لأن يتحول لفدائي في مواجهته لسياسات الاحتلال المتعاقبة في مزاوداتها العنصرية والعدوانية.
– قدرة الصيداوي على إصابة ثلاثة أهداف في أكثر المناطق حساسيةً بالقدس المحتلة، أو ما يطلق عليها بالمعقل الأمني، وتمكنه من الهروب قبل أن يسلم نفسه، يؤكد ضعف قدرة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من جانب ومن جانب آخر فشل إسرائيل في فك الارتباط بين ساحات القتال والمواجهة من غزة إلى الضفة إلى داخل ما يعرف بـ«أراضي 48».
– أمير صيداوي منفذ عملية القدس هو شاب لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، أي هو من الجيل الرابع أو الخامس الذي تعاقب بعد زرع الكيان في فلسطين واحتلاله للقدس، وهو ما يعني أن كل المحاولات الصهيونية من ترغيب وترهيب لم تنجح في تغييب القضية الفلسطينية والمطالبة بالحقوق لدى الأجيال المتعاقبة، ولم تنجح في مسحها من عقولهم، وهو ما يجعل الحسابات والرهانات الصهيونية منذ طور التأسيس حتى اليوم حسابات ورهانات خاطئة.
– لم تعد مسألة ما يطلق عليه «الأمن القومي الإسرائيلي» هي وحدها المعرضة للتصدع بعد تمكن فصائل المقاومة في غزة ولبنان من تغيير قواعد الاشتباك ونقل المعركة للأراضي المحتلة، بل إن فعالية سلاحين بسيطين مثل المسدس والسكين في نشر الرعب والخوف لدى المستوطنين وضع اليوم ما يسمى الأمن الشخصي للمستوطنين عرضة للخطر والتهديد في أي لحظة، وهو ما سيترك المزيد من التأثيرات السلبية على المجتمع الصهيوني وسيزيد من تصدعه، وسيعمق الشرخ الحاصل في ثقة المستوطنين بمؤسسات كيانهم الرسمية، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينت للقول: «إن الاحتلال يعيش وضعاً أمنياً حساساً على كل المستويات».
– ضعف القدرات الاستخباراتية الصهيونية أصبح أمراً واقعاً لا يمكن إنكاره وتجاهله، وبخاصة بعد تقديراته الأخيرة التي تفاخر بها بعد ما سمي بعملية «كاسر الأمواج» التي شهدت الآلاف من الاعتقالات والتهجير والاغتيالات، حيث إن العملية التي نفذها الصيداوي أسقطت هذه الادعاءات والأوهام الاستخباراتية، واستبدلت بحقيقة أن هذه العملية قد تشرع الأبواب أمام المزيد من الفلسطينيين بمختلف أعمارهم وأجناسهم للقيام بعمليات فدائية، ولاسيما بعد التأثير الكبير الذي أحدثته هذه العملية وبأسلحة بسيطة جداً.
– هناك نقطة أخيرة وبالغة الأهمية تسجل بحق الفصائل الفلسطينية وبخاصة العسكرية منها من وجهة نظرنا، تتمثل في عدم استخدام إمكاناتها لحماية وإنقاذ منفذي العمليات ضد الكيان الغاصب، كما حصل سابقاً أمام الأسرى الهاربين من سجن «جلبوع» الإسرائيلي، إذ إن ضيق الخيارات وعدم تمكين المساعدة لهم جعلهم يختبئون في أماكن مكشوفة ومعروفة وسهلة المنال أو يسلمون أنفسهم كما حصل مع أمير الذي استقل سيارة أجرة ومن ثم اضطر لتسليم نفسه، لذلك على هذه الفصائل أن تدعم وترعى هؤلاء عبر تأمين حمايتهم ونقلهم إلى مناطق آمنة وتحت إشرافها، انطلاقاً من واجبها الوطني ذي الأهمية على الانتماء الحزبي، وليكون لمثل هذه العمليات نجاحاً كاملاً يقهر الاحتلال ويزيد من عجزه ويؤكد حتمية أمنه المفقود.
المصدر: الوطن
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال