يُجمع أهالي بلدة كفرشوبا في جنوب لبنان على خلاصة أن معركتهم مع الاحتلال الإسرائيلي طويلة، لكنها ليست صعبة "لأن الصهاينة قوم جبناء، كلّما شهدوا بأساً ومقاومة تراجعوا، وكلّما لمسوا تراخياً أمعنوا في اعتداءاتهم".
أن تألفَ القصف وتتوقّع التشريد والتهجير في أي لحظة. أن تعتادَ على الزرع المحروق وإبادة قطيع كامل من الماشية. أن تقف مكتوف اليدين على بعد أمتار عن أشجار السنديان المنتصبة فوق تلالٍ نزعت زنودُ أجدادك عنها الصخور. أن تجهد في إقناع أبنائك يومياً بأنهم لا يحتاجون إلى بيوت “رديفة” في مناطق أخرى. أن تعيش في كفرشوبا؛ البلدة الجنوبية والتي تقع عند مثلث الحدود اللبنانية – السورية – الفلسطينية، يعني أن تواجه كل ما سبق “من دون أن يكون خيار المغادرة والتخلي وارداً في ذهنك”، على حدّ تعبير الراعي اللبناني إسماعيل ناصر (58 عاماً).
ناصر تصدّى قبل أيام للجرافة الإسرائيلية المدرّعة، والتي كانت تعتدي على أرضه، وكادت تدفنه حياً. يقول إن الصهاينة قضموا أكثر من مئة دونم من الأراضي التي ورثها عن أجداده، بفعل ما يُعرف بـ”خط الانسحاب” (أو الخط الأزرق الذي يبلغ طوله 120 كلم، وتم وضعه من جانب الأمم المتحدة عام 2000 لتأكيد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان). حاله كحال أغلبية أهالي الضيعة “الذين لديهم أراضٍ داخل ذلك الخط”.
المعاناة مألوفة والرعاة هم الحماة
الرجل، الذي تهدَّم بيته ثلاث مرات بفعل القصف الإسرائيلي، شهد التهجير أكثر من مرة. يُعدّدها كمن يروي سيرة ذاتية حافلة: في عام 1975، تهجرنا وعدنا، وبعده بعام هُجّرنا أيضاً، ثم عدنا، قبل أن نخرج منها في الثمانينيات ونعود إليها عام 2000 في يوم التحرير، ولم نغادرها منذ ذاك الوقت على الرغم من التوترات الدورية التي ظل الاحتلال، التي يفتعلها عند حدودنا.
يروي الراعي، الذي احتلّ قبل أيام معظم النشرات الإخبارية العربية والعالمية، كيف كان الجنود الإسرائيليون يلاحقون أبناء البلدة ليخيفوهم، وكيف كانوا يحتلون الساحات ويستهدفون موائد النساء ليدوسوا الخبز. في رأيه، فإنّ “القصف والتشريد هما بمثابة طقوس مألوفة بالنسبة إلى أبناء بلدة كفرشوبا”.
ويذكر ارتكابات الاحتلال، التي طالت والديه اللذين سبق أن أُصيبا برصاص الاحتلال “بالإضافة إلى 250 راس ماشية أُبيدَت وخسرناها بسبب القصف العشوائي على خراج البلدة”، مستطرداً: “نحن ندرك جيداً مَن نواجه”.
وبحسمٍ جلي، يجزم ناصر بأن الراعي هو الحامي الأبرز للبلدة، مُتسلّحاً بمقولة شعبية تفيد بأنه “إذا ما كان في راعي على البركة، ما حدا رح يسترجي يطلع عليها”، في إشارة إلى أهمية دور الحراسة التي يقوم بها الراعي.
ويُعزّز فكرته هذه بالإشارة إلى أن الصهاينة يتخذون المواشي حجةً لقضم مزيد من الأراضي، و”بحجة منع الرعاة من تجاوز الخط، يجري العمل على بناء جدار إسمنتي يقضي على أمل استرداد أراضينا المسلوبة”. وبناءً عليه، “لولا وجود الرعاة لكانت مساحات واسعة من أراضي الضيعة مسلوبة الآن بفعل تحايل الإسرائيليين”.
لا نريد أن نلقى مصير جيراننا
قبل أكثر من خمسين عاماً، وتحديداً عام 1967، استقبلت البلدة وفوداً من اللاجئين الفلسطينين، الذين هجّرهم الاحتلال الإسرائيلي آنذاك.
لذلك، “نحن أكثر من يعرفُ الوجع الفلسطيني، تماماً كما نعرف ما يعانيه أهل الجولان. كذلك، نحن أكثر من يدرك أن لا خيار لدينا إلا المقاومة والصمود”، وفق ما يقول ابن البلدة حسين عبد العال، مُشيراً إلى أن “جغرافية المكان وإحاطتنا بالاحتلال، جعلتانا نتّعظ وندرك أهمية أن نقاوم باللحم الحيّ، فنحن لا نريد أن نخرج من بيوتنا ولا نعود إليها”.
كلامه يتوافق مع ما يقوله مختار البلدة محمد القادري، وفحواه أن “جيرتنا لفلسطين فتحت أعيننا باكراً على التشريد والتهجير”، مؤكداً أن لا خيار أمام الأهالي إلا المقاومة.
يقول المختار، الذي لم يترك الضيعة منذ عام 1970، إنه عاش حتى يومنا 71 عاماً، ضمنها خمسون عاماً شهد فيها حرباً مستمرة مع العدو. وعلى الرغم من أن لقمتهم مغمَّسة بالدم، وفق ما يقولون، وزرعهم يُحرق باستمرار، والحياة قاسية جداً في ظل انتهاك مستمر لسمائهم وسماعهم الدوري للقصف في الجولان المحتل، فإن الثمن يستحق، فـ”اللي ما عندو وطن، ما عندو شي”.
ثمة واقع أساسي يركّز عليه الأهالي هنا، ويفيد بشعورهم بأنهم “متروكون وحدهم”، وأن صمودهم هو الرد الأبرز على “تهميش مجلس الأمن لمختلف الانتهاكات المستمرة من جهة، وعلى إهمال السلطات اللبنانية الرسمية لهذا الملف من جهة أخرى”، وفق ما يقول عبد العال، بينما يستشهد المختار القادري بالحادثة الأخيرة، بحيث حاول الإسرائيليون أخذ مساحات إضافية “ولو لم يتصدَّ الشبان بلحمهم الحي، ومن خلفهم الجيش اللبناني، لما حققنا هذا الانتصار. ولو أردنا انتظار الحلحلة السياسية الداخلية لما كانت هذه حالنا اليوم”.
بدوره، يُشير عبد العال إلى أنه بعد التحرير، عُلّقت لافتة عند مدخل البلدة، تقول: “كفرشوبا عادت إلى الوطن، فمتى يعود الوطن إليها؟”، في إشارة إلى ما سمّاه الإهمال التاريخي للبلدة وأهلها، الذين يعانون منذ زمن. برأيه، أن بداية الأوطان تبدأ بالحدود، وعوضاً من أن يتم الالتفات إلى الأطراف فإنه يجري إهمالها. ويرى أن هذا “التناسي”، رسمياً وعالمياً، عزّز لدى أهالي البلدة مناعة وبأساً لمواجهة واقعهم وحدهم، فغذّى لديهم الشعور بضرورة الاستبسال وفرض واقع “وجودهم على الخريطة”.
فرحٌ بالانتصار الجزئي
“ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة”. يُجمع الأهالي على هذه الخلاصة، مؤكّدين أن معركتهم مع المغتصب طويلة، لكنها ليست صعبة “لأن الصهاينة قوم جبناء، كلّما شهدوا بأساً ومقاومة تراجعوا، وكلّما لمسوا تراخياً أمعنوا في اعتداءاتهم”.
من جهته، يرى إسماعيل أن ما حدث يوم الجمعة أحيا العزيمة التي تكمن في نفوس أهالي كفرشوبا، و”ما قام به الشبّان عند الحدود أعاد التذكير بقضيتنا، وأرسى أهمية عدم التخلي عن الأرض، على أمل أن نشقّ طريقاً تصل التلال بمزارع شبعا، وتتحرر كل الأراضي المغتصبة”.
“عشتُ في صيدا ثلاثين عاماً، وعندما وَطِئت قدماي كفرشوبا عام 2000، وتنفست هواءها، شعرت كأنني لم أغادر البلدة، وكأنني لم أسكن في صيدا قطُّ”. يقول عبد العال إن علاقة الجنوبيين بأرضهم مميزة، فأينما جالَ الزائر في مختلف البلدات، فسيجد عشرات المنازل والفِلَل التي يسكن أصحابها في المهجر، “لكن أول خطوة يقوم بها المغترب هي بناء منزل في ضيعته، لأننا لا نعرف أن نتنفس إلّا هنا، و”صحيح أن ابني عازمٌ على السفر، لكننا ننوي أن نعمّر له على سطحنا كي نشعر بأصلنا ووجودنا”.
المصدر: الميادين
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال