لا يمكن الجزم بمسرى الأحداث في منطقة المشرق العربي وتطوراتها في الأسابيع الحاسمة القادمة.
بعد مرور نحو مئة يومٍ ونيِّفٍ على الحرب الأميركية ضد روسيا، التي تخوضها أوكرانيا بالدرجة الأولى، وأوروبا بالدرجة الثانية، بالوكالة عن الأميركيين على الأرض الأوكرانية، تجد أوروبا نفسها أمام أزماتٍ متزايدةٍ، تبدأ من ارتفاع معدلات التضخم بنسبٍ غير مسبوقةٍ، ولا تنتهي عند أزمة نقص المحروقات والغاز المرشحة إلى المزيد من التفاقم كلما اقتربت أوروبا من فصل الشتاء القادم.
وبهذا، تجد أوروبا نفسها في أتون معركة استنزافٍ قاسية ضد روسيا، معركة تشير نتائجها إلى أنها تسير في غير مصلحة المعسكر الغربي عموماً لهذه اللحظة على أقلّ تقدير. وقد بات واضحاً أنّ الحرب الأوكرانية توازي حرباً عالميةً ثالثةً من حيث أهداف كل طرفٍ، فالمطروح إما تغيير النظام العالمي القائم إلى نظامٍ عالميٍ أكثر توازناً، ليأخذ بالحسبان موازين القوى الاقتصادية والعسكرية العالمية المستجدة في القرن الحادي والعشرين، في حال انتصار روسيا ومن خلفها الصين، وإما ترسيخ الأحادية القطبية الأميركية لعقودٍ قادمةٍ في حال نجاح المعسكر الغربي.
وبهذا، يدخل العالم برمته مرحلةً في غاية الحساسية، إذ إنه يرجح ألَّا يتوانى أي طرف عن استخدام كل الأوراق المتاحة لديه من أجل خدمة معركته المصيرية في أوكرانيا، بما في ذلك توظيف ساحات أخرى غير الساحة الأوكرانية لخدمة معركة رسم معالم النظام العالمي لعقودٍ قادمةٍ.
من هنا، يمكن فهم توقيت التحركات الإسرائيلية الأخيرة التي تستعجل استخراج الغاز – أو بالأصح سرقته – من حقول الغاز المشتركة بين لبنان وفلسطين المحتلة في سواحل شرق المتوسط، إذ إنَّ نجاح كيان الاحتلال في مسعاه هذا سيخفف من التداعيات الكارثية على أوروبا، نتيجة حرب الطاقة التي تعد جزءاً رئيسياً من الحرب الأوكرانية، ويشكِّل ذلك مصلحةً حيويةً أميركيةً ضمن معركتها الاستراتيجية ضد روسيا، وتباعاً ضد الصين.
ونتيجةً لتعقيدات الجغرافيا السياسية في منطقة المشرق العربي، إذ باتت روسيا لاعباً رئيساً في المنطقة، وفي وقت يشكل مسعى الكيان المؤقت في استخراج الغاز من سواحل شرق المتوسط خطوةً صريحةً ضد المصالح الروسية الاستراتيجية المرتبطة بمسار المعارك في أوكرانيا وحرب الطاقة بينها وبين المعسكر الغربي، نتيجةً لهذه التعقيدات، يصعب قراءة خطوة الكيان المؤقت في هذا التوقيت ضمن إطار البحث عن مكاسب اقتصادية مجرَّدةٍ، كما يصعب تَصوُّر إقدام الكيان المؤقت على خطوةٍ خطرةٍ كهذه من دون دعمٍ أميركيٍ أو على الأرجح بتحريضٍ ودفعٍ أميركيٍّ مباشرين.
وقد زاد تعقيد المشهد الإقليمي النقلة النوعية التي قام بها حزب الله مؤخراً، وذلك في أعقاب وصول سفينةٍ إسرائيليةٍ إلى حقل “كاريش” لاستخراج الغاز الطبيعي، إذ رفع السيد حسن نصر الله مستوى التحدي بوجه كيان الاحتلال، حين وضع معادلةً جديدةً مفادها: منع الكيان المؤقت من استخراج الغاز الطبيعي من الحقول المشتركة مع فلسطين المحتلة، ما دام الأميركي مستمراً في منع لبنان من استخراج غازه الطبيعي والاستفادة منه اقتصادياً، وذلك عبر “الفيتو” الأميركي غير المعلن الذي يضعه بوجه الشركات العالمية التي تعتزم التنقيب عن الغاز في الحقول اللبنانية. وبذلك، تجاوز حزب الله قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان المؤقت إلى ما هو أبعد منها، ليصير محل النزاع مرتبطاً بالسماح للبنان بالاستفادة الفعلية من غازه الطبيعي.
وبناءً على مجمل المشهد العالمي والإقليمي، تكون منطقة المشرق العربي أمام 3 سيناريوهات محتملة، يمكن سردها ونقاشها على النحو الآتي:
السيناريو الأول: أن يسمح الأميركي للبنان باستخراج غازه الطبيعي والاستفادة منه اقتصادياً، في مقابل مضي الأميركي والكيان المؤقت في خطة زيادة صادرات الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا، بهدف تخفيف الأعباء المترتبة على دول الاتحاد الأوروبي جراء الحرب الأوكرانية.
في هذه الحالة، يكون حزب الله قد حقق نصراً استراتيجياً ضد كل سياسات “تضييق الخناق” الاقتصادي ضد لبنان التي ينتهجها الأميركي منذ حين، ما سيؤدي إلى إراحة حزب الله وتعظيم حضوره بشكلٍ كبيرٍ، ليس في الداخل اللبناني فحسب، بل في الإقليم ككل أيضاً، ناهيك بأن هذه المقايضة لن تسمح للأميركي بتنفيذ مشروعه الأوسع في شرق المتوسط، والذي يتمثل بمد أنبوب إسرائيلي للغاز المسال عبر المياه الإقليمية اللبنانية والسورية نحو الموانئ التركية، ليصل بعد ذلك إلى أوروبا، حيث لن يسمح حزب الله القوي والقادر في لبنان، ولا النظام في سوريا، ما دام ظلّ متماسكاً، بمرور مشروع كهذا.
ونتيجةً للخسائر الاستراتيجية الأميركية المذكورة آنفاً، والتي تترتب على سيره في هذا السيناريو، يمكن توقع أن احتمال مضي الأميركي فيه ضعيف، إضافةً إلى عدم وجود أي شواهد على أرض الواقع تشير إلى توجه الأميركي نحو هذا السيناريو، على الأقل لغاية هذه اللحظة.
السيناريو الثاني: أن يتراجع الأميركي والكيان المؤقت عن خطوة استخراج الغاز من الحقول المشتركة مع لبنان، ليبقى الوضع القائم في شرق المتوسط على حاله، لكن في هذه الحالة سيسجِّل الأميركي، ومعه الكيان المؤقت، انكساراً بائناً أمام معادلة الردع الجديدة السابق ذكرها، والتي رسمها السيد حسن نصر الله في الآونة الأخيرة، إضافة إلى كون هذا التراجع ينسف الأهداف الأميركية التي تم من أجلها تسخين ملف غاز شرق المتوسط في الأساس في هذا التوقيت، ما ينعكس سلباً على معركة الغرب المصيرية ضد روسيا في أوكرانيا.
السيناريو الثالث: أن يمضي الكيان المؤقت قدماً في خطواته العملية لاستخراج الغاز من حقل “كاريش” بغطاءٍ وتحريضٍ أميركيين، متجاهلاً تحذيرات حزب الله. في هذه الحالة، سيكون هذا العمل على الأرجح الشرارة التي ستشعل حرباً على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة؛ حرباً تُجْمِع كل الأطراف على إمكانية تحولها سريعاً إلى حربٍ إقليميةٍ على جبهاتٍ متعددةٍ بين “محور القدس” وبين الكيان المؤقت، حرب إقليمية حاسمة تُغيِّر وجه المنطقة وتعيد رسم خرائطها، ولن تكون جبهة الجولان المحتل السورية بعيدة عنها، ناهيك بالجبهة الجنوبية لفلسطين المحتلة مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
تعيش منطقة المشرق العربي على صفيحٍ ساخنٍ منذ عدة سنوات. وخلال المرحلة الماضية، لاحت في الأفق نذائر الحرب عدة مرات، لكن الأميركي كان يتراجع عنها في آخر لحظة، بسبب ارتفاع كلفتها عليه وعلى ربيبه الكيان المؤقت، إضافة إلى أن نتائج الحرب كانت – وما زالت – لا تضمن نصراً سريعاً وحاسماً للأميركي بحسب تقديراته، وذلك نتيجةً لتعاظم قوة “محور القدس” الممتد من طهران إلى غزة، مروراً بالعراق وسوريا واليمن ولبنان، ناهيك بالتحول الذي طرأ على الاستراتيجية الأميركية في 2012، التي تقضي بتفرُّغ الأميركي لمواجهة صعود الصين كقطبٍ عالميٍّ صاعدٍ في مواجهة الأحادية القطبية الأميركية، هذه الاستراتيجية التي وضعتها إدارة الرئيس الأسبق براك أوباما، وأعادت إحياءها مجدداً إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، مع الأخذ بالحسبان دخول روسيا على المشهد كشريك للصين في محاولات إعادة رسم ملامح النظام العالمي.
لكن ما استجد اليوم على ظروف ذهاب الأميركي إلى حربٍ جديدةٍ في منطقتنا يكمن في أن حرب غاز شرق المتوسط باتت مرتبطةً أكثر من أي وقت مضى بالمعركة المصيرية التي يخوضها المعسكر الأميركي الغربي في أوكرانيا. هذا المستجد يجعل إمكانية دخول المنطقة في حربٍ جديدةٍ، بحسب “السيناريو الثالث المحتمل”، أكبر من أي وقت مضى، فكيف إذا وضعنا بالحسبان زيارة الرئيس جو بايدن المرتقبة إلى المنطقة في هذا التوقيت، وعودة الحديث عن تشكيل “حلف ناتو” صهيو-عربي لمواجهة إيران، وبالتالي “محور القدس”؟
لا يمكن الجزم بمسرى الأحداث في منطقة المشرق العربي وتطوراتها في الأسابيع الحاسمة القادمة، لكن بناءً على مجمل القراءة السابقة للمشهدين الدولي والإقليمي والربط بينهما، يبرز السؤال المهم: أما آن الأوان لحركة “حماس” أن تعود إلى سوريا؟
بصرف النظر عن أحداث السنوات العشر العجاف الماضية، وبصرف النظر عن المواقف التي اتخذها كل طرفٍ، وعن ابتعاد “حماس” عن سوريا إلى حد وجودهما على طرفي نقيض على غير ما ينبغي أن يكون، فإن المعسكر الصهيو-أميركي، ويضاف إليه اليوم صراحةً بعض الدول العربية، يتعاملون مع كل قوى المقاومة والتحرر العربي كوحدة حال، وخطر الحرب المحتمل في الأسابيع القادمة لن يستثني أحداً من هذه القوى، إن وقع، فهل يعقل أن تقع الحرب التي سيجد فيها كل أركان “محور القدس” أنفسهم منخرطين فيها، من دون أن تكون “حماس” قد عادت إلى سوريا، ومن دون أن تكون سوريا احتضنت مجدداً المقاومة الفلسطينية كما كانت، وما زالت، رغم كل تطورات السنوات العشر الفائتة؟
لا يمكن الجزم بما تحمله الأسابيع القادمة، لكن ما يمكن الجزم به أنَّ “محور القدس” لا يملك رفاهية الوقت. وبجملة: لقد آن الأوان ليلتئم “محور القدس” ويلملم جراحه استعداداً لحربٍ محتملةٍ يكون فيها تحرير القدس هدفاً واقعياً!
عمرو علان
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال