تأتي جريمة إحراق المسجد الأقصى في سياق الاعتداءات الإسرائيلية الممنهجة على الأماكن المقدّسة في القدس، فقد دأب الاحتلال الإسرائيلي بشكل مستمر على التعرّض لحرمة المقدسات، والاعتداء المتكرّر عليها بهدف تنفيذ مخططاته الرامية إلى تغيير طابع القدس وطمس معالمها العربية.
ففي 21/8/1969 أقدم الإرهابي الإسرائيلي من أصل أسترالي “دينيس مايكل روهان” وبدعم من العصابات الإسرائيلية المغتصبة للقدس على إحراق المسجد الأقصى المبارك، وذلك بعد عامين من الاحتلال الصهيوني للقدس في جريمة تعدّ من أكثر الجرائم إيلاماً بحق الأمة وبحق مقدساتها، وهي وصمة عار لا تمحوها سوى سواعد المقاومين الذين يعدون عدتهم بانتظار تحرير القدس من رجس الصهاينة.
أتت النيران على أثاث المسجد المبارك وجدرانه ومنبر صلاح الدين، كما أتت النيران الملتهبة في ذلك الوقت على مسجد عمر بن الخطاب، ومحراب زكريا، ومقام الأربعين، وثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب شمالاً داخل المسجد الأقصى.
بلغت المساحة المحترقة من المسجد الأقصى أكثر من ثلث مساحته الإجمالية، حيث احترق ما يزيد عن 1500م2 من المساحة الأصلية البالغة 4400م2، وأحدثت النيران ضرراً كبيراً في بناء المسجد وأعمدته وأقواسه وزخرفته القديمة، وسقط سقف المسجد على الأرض نتيجة الاحتراق، وسقط عمودان رئيسيان مع القوس الحامل للقبة، كما تضرّرت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والمحراب والجدران الجنوبية، وتحطم 48 شباكاً من شبابيك المسجد المصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترق السجاد وكثير من الزخارف والآيات القرآنية.
وكانت الكارثة الحقيقية والصدمة التي أعقبت هذا الاعتداء الآثم أن قامت محاكم الكيان الصهيوني بتبرئة ساحة المجرم الأسترالي بحجة أنه “مجنون”!! ثم أطلقت سراحه دون أن ينال أية عقوبة أو حتى إدانة!.
وإذا ما تقصينا ملابسات كلّ جريمة اعتداء على حدة، لوجدنا تشابهاً في الأهداف وسلوك الكيان الإسرائيلي الذي يسارع للتأسف بعد كلّ حادث، ثم يبادر إلى تشكيل لجنة أو عقد محكمة كوسيلة لامتصاص غضب الرأي العام العالمي والمحلي، ثم يدفن الجريمة في غياهب التاريخ، ولهذا فإن تكرار الاعتداءات وأسلوب تعامل الكيان الإسرائيلي معها يثبتان وجود نهج نابع من التوجّه العام للحركة الصهيونية تجاه الأماكن المقدسة، والهدف المشترك لكل الاعتداءات كان ومازال فرض الطابع الذي يُسمّى “يهودياً” على المدن والأماكن العربية المقدسة فيما يعرف بــ”التهويد” بهدف طمس معالمها العربية.
إذن لم تكن جريمة الإحراق حدثاً عابراً، بل كانت خطوة على طريق طويلة سار فيها الصهاينة منذ قيام كيانهم الغاصب عام 1948، تهدف إلى إعادة بناء الهيكل اليهودي المزعوم مكان المسجد الأقصى بعد إزالته رغم كل المواثيق الدولية التي تمنع المساس بالمقدسات والآثار.
ففي تموز عام 1948، أغار الصهاينة على المسجد الأقصى، حيث وجهت المدفعية قذائفها صوب المسجد، فأصابت إحدى هذه القذائف مسجد الصخرة وقُتل بعض المصلين، كما نتج عن تتابع القصف حدوث خرق كبير في سقف الرواق الأوسط لقبة الصخرة، وتحطم شباك القبة المصنوع من الفسيفساء والزجاج المذهب الذي كان من التحف النادرة.
وفي حرب حزيران عام 1967، اعتدى الصهاينة على المسجد الأقصى، حيث استباحوا قدسيته وقتلوا العديد من الأبرياء، وأقاموا صلواتهم داخل الحرم، ثم تتابعت اعتداءاتهم بحجة الكشف عن هيكل سليمان، فأخذت السلطات الإسرائيلية تقوم بالحفر في أماكن متعدّدة في الأحياء العربية المصادرة داخل السور، والمناطق الملاصقة للحائطين الجنوبي والغربي للحرم الشريف، وتغلغلت إلى مسافة 230م أسفل الحرم وبعمق عشرة أمتار وعرض 6 أمتار، وترتب على هذه الحفريات تصدع الزاوية الغربية الفخرية (مقر مفتي الشافعية)، فضلاً عن تهديد سور الحرم.
اليوم، مع قيام عدد من اليهود والمستوطنين بدخول باحة المسجد الأقصى بشكل شبه يومي، لا بد من محاسبة الاحتلال الإسرائيلي بصفته قوة قائمة بالاحتلال في القدس بمنع مثل هذه الاعتداءات الممنهجة على الأماكن المقدسة، وضرورة الوقف الفوري لدخول المتطرفين اليهود إلى باحات الحرم القدسي الشريف، لأن هذا الأمر يعدّ خرقاً للقرارات والمواثيق الدولية ذات الصلة، ويهدف إلى تقويض الجهود المبذولة لتحقيق السلام، وانتهاكاً صارخاً لمشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين. ويجب على هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ذات العلاقة المبادرة بالكشف عن المخططات العدوانية الإسرائيلية بحق المسجد الأقصى، وباقي والمقدسات في فلسطين، ووضع حدِّ فاصل لها وإلزام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعدم التعرّض لها بأي شكل من الأشكال. وعلى دول العالم وهيئاته الرسمية والشعبية على حدٍّ سواء المبادرة الفورية إلى إعلان رفضها القاطع وإدانتها الشديدة لهذه المحاولات البائسة وتأكيد حتمية احترام حرمة الأماكن المقدسة في القدس وسائر أنحاء فلسطين، والكفّ عن أية مخططات لهدم طريق باب المغاربة والبناء الملاصق للجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك.
المصدر: البعث
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال