إعادة الإعمار في سورية بين الحاضر والمستقبل 1067

إعادة الإعمار في سورية بين الحاضر والمستقبل

سورية التي طالما كانت بلد الحضارة والعمران بغناها الثقافي والمادي والتاريخي، تعاني اليوم من أشد الأزمات التي باتت تنهش الجسد السوري يوماً بعد آخر، ويأتي ذلك بعد حرب شعواء استمرت طيلة ١٤ عاما دمرت كل شيء، الإنسان قبل الجدران والقيم قبل الهمم ولم تبقي إلا على انقسامات وخلافات وآلام وحسرات تجتمع في دموع من خسر بيته وأرضه وفقد أحبته وقضى عمره يحلم بالأمل الواعد، الذي تأخر كثيراً ليشفي الجراح التي نزفت، حيث بات انتظار الوعود مثل ارتشاف الرمق الأخير من الحياة ...


ملف إعادة الإعمار في سورية يعتبر من أعقد الملفات التي واجهت الحكومات السابقة وتواجه الحكومة الحالية والمستقبلية في سورية، لإنه ملف طُرح في زمن المصالحات وعودة اللاجئين الجزئية التي أعلنت عنها حكومات النظام السابق في عهد بشار الأسد، ويطرحُ الآن في زمن النظام الحالي على ألسنة المسؤولين ورجال الأعمال ، وفي كلا العهدين مازالت الوعود أكثر من الأفعال والتحديات تزداد مع ازدياد الوافدين وعودة المهجرين، سيتناول هذا المقال الوضع الحالي والمستقبلي لهذا الملف المعقد والمثقل بالأعباء والتحديات الحالية والمستقبلية.


حجم الأضرار الهائل والتكلفة العالية

لاتوجد إحصائية نهائية وَ واقعية لحجم الدمار الهائل وتكلفة إعادة إعماره في المحافظات السورية وأريافها، في كل مرة نلاحظ ازدياد الأرقام التي تشيرُ إلى أضرار هائلة تنضم لقائمة الإعمار وتزيد من حجم التكلفة. في إحصائية سابقة قدرت تكاليف إصلاح البنية التحتية المادّية للبلاد ومن ضمنها أنظمة الرعاية الصحية والتعليم والمياه والنقل والطاقة إضافةً إلى القطاعات الإنتاجية قُدّرت في العام 2019 بما يتراوح بين 250 و400 مليار دولار. وفي آخر إحصائية توصلت إليها حكومة السلطة الحالية وعلى لسان وزير الاقتصاد والتجارة الحالي د. محمد نضال الشعار قال: إن بلاده بحاجة إلى "تريليون دولار على الأقل لإعادة إعمار وبناء سورية الجديدة"، بينما كان البنك الدولي في آب أكثر تحفُّظًا في تقديراته، إذ توقّع أن تتراوح تكاليف إعادة الإعمار بين 141 و343 مليار دولار، ورحج أن "أفضل تقدير" يبلغ 216 مليار دولار.[1]


في الواقع إن عملية إعادة الإعمار في سورية معقدة وتواجه تحديات كبيرة في ظل حجم الدمار الكبير والتكلفة الهائلة التي تتطلب تضافر جهود محلية و دولية، تلك الإحصائيات التي تغطي مساحات الدمار الواسعة، تفيد بأن هناك مدن وبلدات تم تدميرها بالكامل في ريف دمشق وحماه، وأحياء مثل القابون وجوبر أصبحت كتل مدمرة على الأرض، وقد قدر فقط عدد البيوت المهدمة بأكثر من مليون منزل في مختلف المحافظات. [2]


التحديات الحالية والمستقبلية ودور المجتمع الدولي

أن المرحلة الحالية تركز على الجهود المحلية المحدودة في ظل غياب مؤتمر دولي شامل، في حين أن المستقبل يتطلب حلولًا سياسية وأمنية واقتصادية لتمويل عملية إعادة الإعمار والتي يجب أن تشمل إعادة بناء البنية التحتية وتوفير فرص العمل وإعادة دعم الدولة للسكن الشبابي وتوفيره بأقساط تتناسب مع دخل المواطن، الحكومة تقف أمام تحديات كبيرة ليس أولها ضعف التمويل وقلة الموارد، وليس أخرها الظروف الصعبة والقوانين الدولية التي تمنع الاستثمار بسبب العقوبات الموجودة حتى الآن، ومازالت هناك عقبات كثيرة تستدعي وجود مؤتمر دولي يتبنى خطة لإعادة إعمار سورية والمساهمة الجماعية من خلال منح قروض داعمة ومساعدات ترفد عملية الإعمار إلى جانب تحفيز وتشجيع المستثمرين في الداخل والخارج ليأخذوا دورهم في عملية البناء.


لاشك أن المسار الزمني لهذه العملية المعقدة لن يكون قصيراً ومن الطبيعي أن تأخذ عملية البناء سنوات عديدة وربما عقود لإن ما دمر في ١٤ سنة يحتاج إلى عشرات السنين لبناءه.


من الواضح أن السلطات في دمشق تواجه خياراتٍ صعبة متعلّقة بكيفية ضخّ الأموال في الأسواق المحلية وتجديد موارد الدولة المُستنزَفة وتفكك بنية الاقتصاد الداخلي، وفي حال أخفقت في تحقيق هذه المهمة لن تتمكّن على الأرجح من توطيد حكمها. حتى البنية الشعبية تعاني من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بالإضافة إلى سيطرة الفصائل الموالية للحكومة وحلفائها من العشائر وغيرهم على ممتلكات الأخرين و على أراضٍ واسعة، وهذا يرسّخ العدوانية المسلّحة كنهجٍ اقتصادي،[3] حتى لو ترافق ذلك مع تدفّق الاستثمارات إلى البلاد فلا يمكن للنجاحات الدبلوماسية التي حقّقها الشرع أن تعوّض عن مكامن الضعف في الاقتصاد المحلي الشديد الاختلال.


الرؤى المستقبلية لإعادة الإعمار

اذا كنا نريد التخطيط للمستقبل فلابد من إعداد خطط طموحة تبدأ من الواقع الحالي وتعالج مشاكله وتحدياته ثم نبني أسس متينة نسير عليها نحو تنفيذ المشاريع المستقبلية، وجل ماتفعله الدولة والحكومات هي تصريحات و وعود وتقارير ولجان و قرارات لامنطقية، وتدعي أنها تخطط للمستقبل الواعد الذي ينتظره جيل وراء جيل ولا يرى أي حقيقة في ذلك.


الرؤى كثيرة والوعود أكثر ومايخطط على الورق ستتكفل عشرات السنين بتنفيذه على أرض الواقع، إن عملية الإعمار في ظل الوضع الحالي تشبه العمليات العسكرية في ميدان المعركة، جميع الأطراف تتقاتل ويطول الصراع حتى ينتصر أحدهم أو لا أحد ينتصر ويخسر الشعب كل شيء، وفي النهاية يتقاسم الجميع الغنائم، للأسف حتى الأن لاتوجد أية خطط واعدة للبدء بعملية إعادة الإعمار، وإن كانت تدور بين الأوساط السياسية وعلى ألسنة المسؤولين، فالمتطلبات كثيرة والتحديات أكبر من الواقع، وحتى نتخطى هذه المرحلة الصعبة، يجب أن يبدأ العمل الجاد وأن يرى الناس ويشاركون في عملية البناء بأنفسهم .


الخلاصة

تمر سورية بلحظة مفصلية في تاريخها، فإما أن تسلك طريق إعادة الإعمار والمصالحة وتحقيق السلام وتعزيز الثقة بين مؤسسات الدولة والشعب، أو تواجه خطر الغرق في فوضى قد تأخذ البلد إلى مئة عام من التخلف والدمار. فالرهانات التي تعول عليها سورية والمنطقة بأكملها لا يمكن أن تكون أكبر مما هي عليه الآن في ظل الإمكانات المتاحة، فهذه واحدة من أطول الأزمات الإنسانية في العالم، والنتائج تشير بوضوح إلى إمكانية تفاقمها إذا لم تُتخذ خطوات عاجلة. وتعافي سورية لا يقتصر على إعادة إعمار المدن فقط، بل يتطلب الاستثمار في الإنسان واستعادة الثقة بالمؤسسات وتهيئة الظروف وتعافي الحياة الإقتصادية التي تُمكّن الناس من استعادة حياتها الطبيعية، وحتى نكون منصفين يجب ألا نحكم على المرحلة الحالية إلا بعد إعطائهم المدة الزمنية اللازمة لتبصر تلك الوعود النور على أرض الواقع.



محمد يزن الحمادي


[1] https://2h.ae/hnZdp

[2] https://2h.ae/UAAXY

[3] https://2h.ae/evQpY



لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال