ما جرى ليس حدثاً عابراً، إذ شكَّل صدمة غير متوقعة لقادة “إسرائيل”، وله قراءتان؛ الأولى أمنية، والأخرى سياسية.
أعلنت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية اعتقالها إسرائيلياً يدعى عومري غورين يعمل في منزل وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس، وقالت إن “غورين اتصل بهيئة مرتبطة بإيران، وعرض عليها المساعدة في التجسس”، مثل زرع برامج تجسس في حاسوب غانتس، و”لإثبات جديته، قام بتصوير عدة أماكن من منزل غانتس وفي خزنة الأسرار، وإرسال هذه الصّور إلى جهاتٍ مُرتبطةٍ بإيران عبر برنامج تلغرام”.
الإسرائيلي غورن (34 عاماً) يهودي ويحمل الجنسية الإسرائيلية، ويعمل في منزل غانتس منذ سنوات، أي الفترة التي كان يشغل فيها منصب رئيس أركان “جيش” الاحتلال، ويعتبر هذا المنصب الأكثر أهمية وخطورة داخل كيان الاحتلال الإسرائيلي.
وكشفت صحيفة “جيروزاليم بوست” تحت بند “سُمح بالنشر” أنَّ موظف النظافة المعتقل تواصل مع مجموعة المقرصنين “Black Shadow” (الظلال السوداء)، وعرض عليها إمدادها ببيانات من منزل غانتس، بما في ذلك بيانات سرية من حاسوبه.
هذا الحدث لا يعتبر الأول من نوعه. وفي تتبع لمسار الأحداث، من الواضح أن الحرب تدور بين “إسرائيل” وإيران على كل الأصعدة. وانطلاقاً من الحرب السيبرانية الباردة التي اشتدت وزادت وتيرتها مؤخراً، وصولاً إلى حالة الاستعراض الأخيرة في البحر الأحمر، تدور في الخفاء حرب استخباراتية أمنية قائمة على استراتيجية أمنية عالية ومسار أكثر دقة وحساسية، هدفها أن يبقى وزير الأمن الإسرائيلي في دائرة الاستهداف كلّ لحظة.
وهنا، يجب ألا ننسى أو نتجاهل مسار الأحداث على مدار الأعوام الثلاثة الماضية تجاه شخصية غانتس، ومن المهم أن نتوقف أمام ما جرى في العام 2018، حين أعلن جهاز “الشاباك” الإسرائيلي اعتقال وزير الطاقة الإسرائيلي الأسبق رونين سيغيف، بتهمة التجسس لمصلحة إيران، وكذلك الكشف مؤخراً عن تعرض هاتف غانتس لاختراق في آذار/مارس 2019، ورجّح حينها وقوف جهات إيرانية وراء هذه العملية الأمنية الاستخباراتية.
ما جرى من اعتقال موظّف يعمل في منزل غانتس ليس حدثاً عابراً أو عادياً، فقد شكَّل صدمة غير متوقعة لقادة “إسرائيل”، وله قراءتان؛ الأولى أمنية، والأخرى سياسية. يوماً بعد يوم، تثبت الوقائع أن هذا الكيان أوهن من بيت العنكبوت، وأن منظومته الأمنية مهلهلة وبنيته هشة، واختراقه والتأثير فيه ليس صعباً أو مستحيلاً.
وعلينا أن نستحضر مشاهد عملية وقعت على مدار فترات مضت في سياق حرب صراع الأدمغة، سواء على صعيد الصراع القائم بين إيران و”إسرائيل” من جهة، وبين “إسرائيل” والمقاومتين الإسلاميتين في لبنان وفلسطين من جهة أخرى، وهو ما يثبت حالة التفوق الأمني والاستخباراتي الكبير أمام منظومة الاحتلال الأمنية التي يروج لها على أنها الأقوى بين دول العالم، وهو ما كان واضحاً جلياً إبان معركة “سيف القدس” وما قبلها من كشف محاولات إسرائيلية لاختراق منظومة الاتصالات الخاصة بالمقاومة، سواء في لبنان أو في فلسطين وما تبعها من مواجهات عسكرية سجّلت فيها أذرع محور المقاومة انتصاراً وتفوقاً واضحاً أمام منظومة الأمن الإسرائيلية، وصولاً إلى الفشل الأمني الكبير، بعد تمكّن 6 أسرى فلسطينيين من انتزاع حريّتهم من جلبوع، وهو ما يعد فشلاً إسرائيلياً وضربة مؤلمة لمنظومة الأمن الإسرائيلي.
وحتى لا نبتعد كثيراً عما جرى، وفي القراءة الأمنية، يمكن القول إنَّ ما جرى الكشف عنه من اكتشاف إسرائيليٍّ يتجسّس لمصلحة إيران، ويعمل في منزل وزير الأمن بيني غانتس يعدّ:
– فشلاً إسرائيلياً أمنياً استخباراتياً ذريعاً، يضاف إلى سجلات الفشل الكبيرة، وجهاز الشاباك الإسرائيلي على وجه الخصوص، الذي لم ينجح في التحقق من شروط السلامة الأمنية لشخص يعمل في منزل أهم شخصية أمنية عسكرية إسرائيلية تحتلّ المنصب الأول في منظومة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يعدّ إخفاقاً لا يمكن تجاهله، إذ إن المتعارف أن عامل النظافة الذي يعمل في أي مكان حسّاس كهذا، يستطيع الوصول إلى أدق التفاصيل والأسرار داخل منزل غانتس، باعتبار أن جهاز “الشاباك” هو الجهة التي سمحت لشخص ذي سوابق جنائية بالعمل في منزل وزير الأمن الإسرائيلي، بشكل يمكن أن يساعده على تسريب الكثير من المعلومات الحسّاسة وتحويلها إلى أيّ جهة تعتبرها “إسرائيل” معادية، بما فيها إيران والمقاومة الفلسطينية.
– ثغرة أمنيّة واضحة، وحدثاً خطراً، ودليلاً على أن غانتس كان مستهدفاً طيلة الفترة الماضية، كما أنه يعكس قدرة إيران على توظيف كل الأدوات، حتى البشرية منها، للوصول إلى أي شخصية إسرائيلية، وللكشف عن مخططات “إسرائيل” الأمنية والعسكرية في المنطقة، وتجاه إيران بشكل خاص، وإن لم تعلن مسؤوليتها المباشرة بشكل واضح عما جرى، فليس كل حدث أمني يُكشف عنه وفق الاستراتيجية الأمنية الناجحة، وهو ما حدث سابقاً في الحرب السيبرانية القائمة والدائرة بين إيران و”إسرائيل”.
– ما جرى يدلّ أن “إسرائيل” ليست حالة استثناء، وأصبح بالإمكان تجنيد أي شخص إسرائيلي يعمل في أي مكان أو موقع حساس داخل “إسرائيل” كمصدر أمني استخباراتي، سواء لإيران أو للمقاومتين الإسلامية في لبنان أو الفلسطينية في قطاع غزة.
– ما جرى يعكس أنَّ “المجتمع” الإسرائيلي بتركيبته لا انتماء ولا ولاء له، بل إن المستوطنين هم مجموعة من المرتزقة ليس إلا، فكما باع “الجيش” الإسرائيلي أسلحته لعناصر في المقاومة، ها هو اليوم مستعد لأن يقدم أهم المعلومات الحساسة لأجل المال، ما يعكس أن “المجتمع” الإسرائيلي “مجتمع” ساقط أمنياً وعسكرياً وسياسياً، رغم كل مساحيقه التجميلية التي تحاول قياداته تسويقها، بل إنها تغرر دولاً عربية لأجل الانخراط في المشروع الإسرائيلي والتماهي مع مخططاته.
– في الجهة المقابلة، لا بد لنا من أن ندرك أن منظومة الأمن الإيرانية وصراعها القائم مع “إسرائيل” تسجل حالة من التفوق أمام امتلاكها كلّ الإمكانيات واللوجستيات مع العقل الإيراني الذي يدافع عن مشروع كبير عنوانه اجتثاث السرطان الإسرائيلي من المنطقة.
أما في القراءة السياسية، وأمام سهولة الوصول إلى شخصية وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس عبر هاتفه سابقاً، وإلى قلب منزله اليوم، فلهذا الحدث انعكاسات مهمة على الصعيد السياسي مستقبلاً، إذ إنّ مثل هذه القضية لن يُترك أو يُنسى سياسياً في المشهد الإسرائيلي، ولن يبقى على الرف، كما يقال، وستسجّل على غاتس نقاط ضعف وإخفاق أمني، وستستحضر في وقت السباق الانتخابي الإسرائيلي القادم من قبل أطراف سياسية إسرائيلية، ولا سيما حزب “الليكود”، الذي يجلس حالياً في المعارضة، ناهيك بأطراف إسرائيلية أخرى تتنافس مع غانتس داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر في مستقبله السياسي.
ما جرى لن يكون الحدث الأمني الأخير. ستفاجئنا الأيام بمزيد من الضربات الأمنية المركزة أمام حالة الصراع القائم والممتد بشتى الأشكال والأساليب، لكن المهم أن المستقبل لن يكون أبداً في مصلحة “إسرائيل” ومن يصطف في مشروعها في المنطقة.
كما علينا أن نسجل أن مستقبل “إسرائيل” في المنطقة بدأ يشهد حالة انحسار واضحة بعد حالة القلق الكبيرة التي تبديها في كثير من السلوكيات مع حالة اللااستقرار التي تعيشها داخلياً من ضعف بنيتها الحكومية وهشاشة مؤسساتها الأمنية، ناهيك بعوامل أخرى باتت حاضرة في ظل ارتفاع حالة هجرة المستوطن الإسرائيلي إلى دول غربية وأوروبية، وكذلك حالة الارتباك الإسرائيلية الواضحة من الجهة المقابلة أمام قوة وتصاعد إيران ومحورها في المنطقة، الذي بات يصل إلى أي مكان يريد، وهو مستعد لأن يضرب في كل زمان ومكان، وهذا كله يعجل ويقرب نهاية وجود “إسرائيل” في المنطقة، ويجعلنا نتيقَّن أن نهاية هذا الكيان باتت أقرب من أي وقت مضى.
المصدر: كيهان العربي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال