تعيش المنطقة على فوهة بركان يمكن أن ينفجر في أي لحظة، فالتطورات المتسارعة على ساحة الصراع الروسي ـ الأمريكي التي تدور رحاها على الأراضي الأوكرانية لها ارتدادات على معظم دول العالم، وبطبيعة الحال دول الخليج الفارسي من ضمن هذه الدول التي ستتأثر بالأزمة، فما هي الارتدادات السياسية والعسكرية والاقتصادية للأزمة الروسية ـ الأوكرانية على دول الخليج الفارسي؟
حاولت دول الخليج الفارسي إمساك العصا من الوسط، فلم تؤيد العملية العسكرية الروسية من جهة، ولم تأخذ طرفاً مع أوكرانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، ذلك لأنها واقعة بين نارين، الأولى، علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة، والثانية، علاقاتها المستجدة مع روسيا.
وتمثل موقف دول الخليج الفارسي ببيان مجلس التعاون الذي أعلن عن “تأييده لكافة الجهود الرامية لحل الأزمة من خلال الحوار والدبلوماسية”، ودعمه “للجهود الدولية المبذولة لتخفيف حدة التوتر والتصعيد والشروع في إجراءات التهدئة بما يكفل عودة الاستقرار ويفسح المجال أمام إجراء مباحثات سياسية تفضي إلى حل سياسي للأزمة”.
وفي سياق تفنيد المواقف التي خرجت بها بعض دول الخليج الفارسي، ونبدأ بالمملكة العربية السعودية، في الرياض، لم يخرج أي موقف رسمي لغاية الآن، ولكن ممكن أن نستشفه مما عبرت عنه الصحف السعودية، فهي عكست بوضوح امتعاضاً من التصرف الأمريكي المستمر بخذلان “الحلفاء”، وقارنت بين التعامل الأمريكي مع روسيا وبين التعامل مع ايران، وتحدثت عن تغليب المصالح الأمريكية العليا على مصالح الحلفاء، مما يفرض على السعودية تغليب مصالحها. من جهة ثانية، حرّض بعض الكتاب السعوديين أميركا على التعامل بحزم مع روسيا، متناسين أن القواعد الأمريكية تستضيفها معظم دول الخليج الفارسي ومنها السعودية.
السعودية إذاً في حيرة من أمرها من جهة الحليف الأمريكي الاستراتيجي، والذي تشكل قواعده العسكرية ركيزة أساسية بحماية مُلك آل سعود طيلة السنوات الماضية. والآن لديها توجس من التخلي المريب لأميركا عن حلفائها. ومن جهةٍ أخرى، العين أيضاً على الحليف الروسي المستجد والوحيد الذي احتضن ابن سلمان في قمة العشرين، وتطورت العلاقات معه في السنوات الأخيرة حين زار كلّ من الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان روسيا وعقدوا معها اتفاقيات عدة من بينها (بناء 16 مفاعلاً نووياً للأغراض السلمية، واستحواذ السعودية على شركات زراعية داخل روسيا بهدف ضمان الأمن الغذائي). وقد طرح ابن سلمان العلاقات مع روسيا كخيارٍ بديل عقب الابتزاز الأمريكي له ورفض بايدن لقاءه، والآن هذا الخيار تحت اختبار صعب، فيجب على ابن سلمان الاختيار بين العلاقات الأمريكية ـ التاريخية وبين العلاقات الروسية المستجدة.
وقد حاول بايدن خطب ود السعودية، حيث أعلنت صحيفة “ذي انترسبت” أن السعودية رفضت طلباً لبايدن لزيادة الإنتاج النفطي. وفي اتصال بين بايدن والملك السعودي رفض الجانب السعودي الطلب الأمريكي ما دفع الأخير الى المساومة على زيادة الدعم العسكري الأمريكي للسعودية في حربها على اليمن. وتكريساً للرفض السعودي للطلب الأمريكي، فقد أكد ابن سلمان للرئيس الفرنسي، أن بلاده ملتزمة باتفاق تحالف “أوبك بلس” حول كميات إنتاج النفط، الذي تقوده إلى جانب روسيا.
أما دولة قطر، فهي دائماً تحاول اتخاذ دور الوسيط خلال النزاعات، ووجدت في الأزمة الحالية فرصة لكي تبرز كوسيط مرةً أخرى. فمن المعروف أن قطر توسطت بين أميركا وحركة “طالبان” في أفغانستان، ولعبت أيضاً دور الوسيط بين أميركا من جهة والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهةٍ أخرى بغية التوصل إلى حل للاتفاق النووي. والآن تحاول أن تكون وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا. وقد هاتف وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن، نظيريه الروسي سيرغي لافروف والأوكراني دميترو كوليبا، وبحث معهما مستجدات التصعيد العسكري. ورفضت قطر أن يسد غازها الطبيعي جزءاً من احتياجات أوروبا للغاز الروسي، وبهذه الخطوة تكون قد أرضت الروس من جهة، فيما لم يقصر الإعلام القطري من جهة ثانية بتوجيه سهامه نحو العملية الروسية.
كذلك كان للإمارات موقفٌ لافت من الأزمة، فقد امتنعت عن التصويت على مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة وألبانيا بشأن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، دعت إلى ضرورة الامتثال للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة كأساس للحوار، وطالبت بالتهدئة في أوكرانيا ووقف الأعمال العدائية، وأن تظل القنوات الدبلوماسية مفتوحة. وهذه الخطوة سعت بها الإمارات لإرضاء كل من الولايات المتحدة وروسيا.
في هذا الإطار، كرس أنور قرقاش “مستشار الشؤون الدبلوماسية لرئيس الإمارات”، الموقف الإماراتي من الأزمة الروسية ـ الأوكرانية مؤكداً أن موقف بلاده “راسخ إزاء المبادئ الأساسية للأمم المتحدة والقانون الدولي وسيادة الدول ورفض الحلول العسكرية”. وتابع “نؤمن بأن الاصطفاف والتموضع لن يفضي إلا إلى المزيد من العنف، وفي الأزمة الأوكرانية أولوياتنا تشجيع جميع الأطراف لتبني الدبلوماسية والتفاوض لإيجاد تسوية سياسية تنهي هذه الأزمة”.
في الشق العسكري
تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في معظم دول الخليج الفارسي، وبحال تدحرج التطورات في أوكرانيا ودخول الحلف الأطلسي وأميركا على خط المعركة ستكون هذه القواعد أهدافاً مشروعة للصواريخ الروسية، وكذلك ستكون أراضي دول الخليج الفارسي مسرحاً للحرب بين روسيا وأميركا. فلأميركا قواعد في السعودية منها برية وجوية وبحرية عدة، وفي البحرين قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، وفي الكويت مطارها الدولي، أكبر مركز دعم لوجستي للقوات الأمريكية في المنطقة، وفي سلطنة عمان مسموحٌ للقوات الأمريكية باستخدام موانئها وأجوائها، أما في قطر، فيوجد مقر القيادة المركزية الأمريكية، داخل قاعدة العديد الجوية، وفي الإمارات، يعد ميناء جبل علي واحداً من أكبر مراكز الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية في الخارج.
في الشق الاقتصادي
في مقابل التحديات المهمة لدول الخليج الفارسي، ستحصل على مكاسب جيدة. في المكاسب، تحتاج السعودية أن يصل سعر النفط إلى 72 دولاراً للبرميل حتى تُوازن ميزانيتها، بينما يصل الرقم لدى الإمارات إلى 67 دولاراً للبرميل، في حين تحتاج البحرين أن يتجاوز سعر البرميل 106 دولارات. وبما أن أسعار النفط الخام تجاوزت الـ105 دولارات للبرميل، فجميع هذه الدول ستحقق المكاسب. وفي هذا الصدد سجّل سهم شركة “أرامكو” السعودية ارتفاعاً قياسياً خلال التعاملات الأخيرة واحتلت “أرامكو” المركز الثاني بعد شركة “آبل” العالمية من حيث القيمة السوقية. بالمقابل ستستفيد قطر بشكل غير مباشر من العقوبات على مصادر الطاقة الروسية إن اتخذت، وستكون دولة قطر البديل لما لديها من قدرات هامة في تصدير الغاز، حيث تستحوذ على 12.9 % من إجمالي احتياطات العالم من الغاز.
أما بالنسبة إلى التحديات، فهي تتعلق بالأمن الغذائي لدى دول مجلس التعاون، بحيث إن أوكرانيا وروسيا هما من الدول التي تعتمد عليها بشكلٍ كبير في العديد من المنتجات، وعلى وجه الخصوص المنتجات الزراعية، حيث تستورد المملكة (القمح ـ اللحوم ـ الحليب) من البلدين. وقد اشترت السعودية 592 ألف طن من القمح الأوكراني خلال 2021، ولديها قرابة 200 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في غرب أوكرانيا، تديرها شركة “سالك” المملوكة لـصندوق الاستثمار السعودي. وكذلك تصدر أوكرانيا نحو 450 ألف طن من اللحوم سنوياً. أما دول الخليج الفارسي الأخرى فتستورد القمح والبيض وجميع أنواع الدواجن الطازجة والمجمدة والمبردة ونصف المصنعة واللحوم والخضروات والمواد الخام والسلع الوسيطة.
كذلك، فإن للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها أميركا وحلفاؤها على روسيا انعكاسات متباينة على دول الخليج الفارسي. وهذا يتعلق بحجم التبادل التجاري الموجود بين دول مجلس التعاون وروسيا، إضافة إلى مستوى الضغوطات التي ستتعرض لها دول الخليج الفارسي من الإدارة الأمريكية لتحجيم علاقاتها مع الدولة الروسية. فهل سترضخ دول الخليج الفارسي كعادتها للإملاءات الأمريكية أم هذه المرة ستتعلم من درس الخذلان الأمريكي الجديد؟ لننتظر ونرَ.
بقلم: محمد باقر ياسين
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال