الإمام الخامنئي: حق الله في إقامة الحكومة العادلة 21

الإمام الخامنئي: حق الله في إقامة الحكومة العادلة

يحتاج الاقتراب من خطاب الإمام الخامنئي دام ظله إلى جهد كبير في استطلاع طروحاته الغنية والمكثفة والمتكثرة، إلى جانب الجهد في تتبع التجربة اللصيقة بالمفردات والمصطلحات التي يطرحها بشكل وجيز، لكنها محملة بمخزون فكري وتجريبي كبير، بحيث تتبدى الكلمات وكأنها مفاتيح لمساحات فكرية نظرية وتجريبية مترامية، يمكن الاستغراق فيها، والسعي لوضعها في السياق الثقافي المناسب لها، نظراً لأنها عصارة تراث وفكر وتجربة واختبار، وهي نتيجة اجتماع الفكرة الدينية مع المأسسة المعاصرة، وبالتالي تمحور التجربة الواقعية على أساس الفكرة والتغذية الراجعة للنموذج التطبيقي بشكل مستمر.

اعتبر الإمام الخامنئي في خطابه الأخير، والذي ألقاه في ذكرى رحيل مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني قدس الله نفسه الزكية، أن الإمام الراحل سار في تأسيسه للجمهورية الإسلامية على أساس أن “من حق الله على أفراد الشعب ان يتعاونوا على اقامة حكومة الحق والعدل” وأن “الناس أحرار في تقرير مصيرهم”. تستحق هذه العبارة النقاش والتفريع والعودة بها إلى الأصول ومن ثم العودة إلى التطبيقات الواقعية، لكي تستنطق مدلولاتها وفوائدها العملية.

جرى تقديم المشاركة السياسية في الجمهورية الإسلامية في محطات سابقة على أنها جزء من المواجهة مع العدو، لأنها إثبات لحيوية النظام وشعبيته. لكن في الخطاب الأخير نرى أن ثمة زاوية نظر تضاف على تلك المقاربات، حيث إن إقامة العدل واجب جماعي تشاركي، وهذا مفهوم يعبر عن كل أدوار الناس المختلفة مواقعهم في النظام السياسي والدولة والمجتمع، وبذلك تكون المشاركة السياسية عبر اسلوب الانتخاب والمحاسبة، حقّاً لله على الناس، بمعنى أنها واجب ملقىً على عاتقهم وليست فقط حقاً لهم، وهم يحتفظون في الآن عينه بحق تقرير مصيرهم.

في المرحلة التأسيسية للنظام الإسلامي كان الجدال قائماً حول حق الشعب في تقرير مصيره وحق كل فرد في ذلك، تبعاً للنُظم السياسية المعاصرة ومقولاتها المعلنة. وقد أسس الإمام الخميني تجربة اعترفت بذلك الحق لا بل شجعت عليه، ابتداءً من الاستفتاء على شكل النظام الوليد بعد انهيار الشاهنشاهية.

يشير خطاب الإمام الخامنئي إلى توجيه حقاني إلهي، يضع فعل تقرير المصير في ظل تطبيق واجب إلهي مفروض، في تحقيق العدل وإقامة الحق، فلا يكون تقرير المصير بدون تلك العناية الشرعية الربانية التي تدعوه مختاراً تحت صفة الوجوب والمطالبة الإلهية بالتوجه نحو المصير الأرقى والأسمى والأفضل للإنسان فرداً ومجتمعاً وفق المعايير الإلهية، وبالتالي المحاولة الدائمة والحثيثة لإخضاع الحكم الاجتماعي لتلك المعايير والارتقاء بتطبيقها، وهي معايير ذات مراتب ودرجات نظراً لسموها ومثاليتها بطبيعة الحال.

من ناحية أخرى، من النتائج الطبيعية لتلك العناية الشرعية أنها تنفي السماح للإنسان بالتخلي عن واجب المشاركة في تقرير المصير، فهي مسؤولية متبادلة بين أفراد المجتمع تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، هذا الواجب الذي يخرج مسألة المشاركة من كونها حالة خارج نطاق المسؤولية الدينية، ويعرضها بالتالي للاهتزاز بحسب الظروف وبحسب التوقعات الممكنة من هذه المشاركة، والتي تتأثر بنتائج المشاركات السابقة، بل إن السعي الفردي لإقامة حكومة العدل والحق عمل إلزامي مستمر، ينبغي أن لا يتأثر بالظروف التاريخية.

هذه هي عصارة التجربة الثورية التي بدأها الإمام الخميني شعوراً منه بتلك المسؤولية عينها رغم الظروف التاريخية الحاجزة والعقبات الكأداء الماثلة، وكذلك هو مبدأ نلاحظه في مرحلة بناء الدولة وحراستها من برنامج الاستكبار الهادف لتدميرها وإفشالها كتجربة وليدة، في العقد الأول من عمرها.

تعتبر المشاركة الانتخابية محكاً للثقة الاجتماعية بأي نظام سياسي، فعندما تضعف الثقة بمؤسسات الدولة ينعكس ذلك تلقائياً في نسبة الاقتراع، وفي التجربة الواقعية للدولة الإسلامية تتأثر بتلك الثقة بالتجارب والمتغيرات، والعامل الذي يحفظ تلك التجربة ويحرسها من العواصف السياسية والاقتصادية والثقافية هو ذلك الإلزام الشرعي، الذي يعني ضرورة استمرار العمل والسعي والمحاولة برغم تخلف الظروف، وهو ما يتيح إمكانية التكيف مع الظروف والتطوير الدائم في التعامل مع التحديات، سواء كان ذلك عبر تغيير المسؤولين من خلال العملية الانتخابية، أم عبر سائر المساعي المتعلقة بالشأن العام، الذي هو مسؤولية كل فرد في الدولة.

يربط الإمام الخامنئي دوماً الإيمان بالمسؤولية، وهذا معلم رئيس في مدرسته الفكرية، حيث تتمحور حالة التدين الروحي حول الفعل والعمل والإنجاز والمسوؤلية، فلا يكفي الإيمان بدون تلك الفعالية، وهذا لب مشروع الدولة الإسلامية التي نقلت الحالة الروحانية من المسجد إلى البرلمان ومن الشأن الفردي إلى الشأن العام بكل متعلقاته.

التجربة الجارية في التاريخ توضح أن مسألة إقامة الحكومة الحقة والعادلة تحتاج إلى مواكبة فعالة من الجميع كي تتحقق، حيث تحصل الأخطاء ويظهر القصور في سلوك المسؤولين بحسب التطبيق الفعلي، كما أن النظام الدوري الذي لا يسمح لرئيس الدولة بالاستمرار لأكثر من ولايتين انتخابيتين، يمنع من الجمود، وهو مدخل للتغيير والتطوير، فإنه سبب للحاجة الدائمة للمواكبة على صعيد الأفراد الذين يمارسون الحكم. إلى جانب قضايا الزمان المختلفة، والمنافسة مع الدول الأخرى على صعيد النموذج والحضور الفعال، والتحديات الطارئة وحتى الأزمات البيئية والصحية، كل هذا يجعل من هذا الواجب الإلزامي، محوراً يرتكز إليه نجاح التجربة التي تحملت عبء الرسالية وعبء المثالية، وعب المواجهة مع الاستكبار.

“الإمام الخميني لم يجامل أحدا على حكم الله، وقد استطاع مشروعه أن يجعل من الشعب الايراني حاكمًا وسيّدًا لمصيره وواثقًا بنفسه بعد الدكتاتورية المطلقة”.

استرجعت الثورة الإسلامية للناس حقهم في تقرير المصير، حيث قامت على أنقاض الديكتاتورية الشاملة التي مثلها الشاه دولة إسلامية تستوعب الحيوية الشعبية والمشاركة العامة في شؤون السياسة، وهذا التناقض الحاد بين ما سبق التجربة الإسلامية وبين ما حققته في أرض الواقع، قدم صورة أكثر وضوحاً عن طبيعة الحكم الإسلامي، في نظر المواطن الإيراني والمراقب الخارجي على حد سواء، حيث كان باستطاعة قيادة الثورة، بما امتلكته من رصيد مصداقية واسع، أن تخوض مغامرة الاحتفاظ بتجربة النظام السابق جزئياً، من خلال فرض رؤيتها دون العودة للشعب، الذي أعطاها الحق والمصداقية والدعم وقدم التضحيات الهائلة في سبيل إنجاح المشروع الذي حملته وقدمته تلك القيادة، إلا أن الإمام الخميني أصر على اقامة الاستفتاء، وحفظ ساحة المشاركة الشعبية منذ اللحظات الأولى. الإمام الخامنئي يقدم هذا الحفظ والصون لهذه المشاركة كحق مفروض على الناس، وليس فقط حقاً مكتسباً لهم، وهذا ما يفسر ربما مدى اصرار الإمام الخميني على حفظ تلك المساحة للناس، ليؤدوا حقاً عليهم وحقاً لهم كذلك، وبحسب تعبير الإمام الخامنئي في خطابه الأخير فإن “إرادة الشعب الإيراني تتجسد في الانتخابات، وقد كان الإمام يعتبرها واجباً شرعيا ومظهرا لسيادة الشعب الدينية”.

الصلابة في المواجهة مع الطروحات الأخرى، والثبات من قبل الإمام الخميني قدس سره، على موقفه الرافض لأي تعديل في اسم الدولة المقترح لمرحلة ما بعد سقوط الشاه، والمكون من مفردتين رئيسيتين: الجمهورية/الإسلامية، هذا الموقف الملتزم بالحكم الإلهي، كان متوازياً مع السعي الحثيث لإعطاء الناس حقهم السياسي وسيادتهم الشعبية الدينية، وأثبت عدم التناقض بين الخضوع للحكم الإلهي وبين الحرية في تقرير المصير، رغم الأمواج الفكرية والثقافية الهائلة التي ضربت إيران منذ انتصار الثورة، والمتأتية من البرامج الاستكبارية.

“الإمام وظف قدرات الشعب العظيمة لتحقيق أعمال كبيرة، وأنقذه ووثق به وبقدراته وجاء به الى الساحة”.

كانت الدولة الوليدة محتاجة إلى موارد بشرية ضخمة اذا أريد لها الوقوف أمام النظام الدولي، إقامة للحق والعدل والتزاماً بالتوجيه الإسلامي حيث إن “الإسلام الذي اعتقد به الإمام الخميني هو الإسلام المعارض للاستكبار والفساد والاستفراد بالسلطة”، فالدولة التي تحمل شعار لا شرقية ولا غربية بحق في ذلك الزمان كانت بحاجة لدعم من شعبها قبل كل شيء، فهي محاصرة من كل جانب. من ناحية أخرى كان الجمهور يحتاج إلى نقلة تاريخية للتحول من الهم الفردي إلى الشأن العام، بعد عقود طويلة من السكون والقمع والإحباط. وقد كانت الثورة بحد ذاتها هي عملية دمج عميقة للإنسان الإيراني في الشأن العام، في ساحات المواجهة اليومية مع السافاك والجيش الملكي. وبعد سقوط الحواجز بدأت مرحلة البناء والحفاظ على استمرارية المسؤولية، حيث نال الإنسان الثقة بقدرته على تحمل المسؤولية، ولا يزال الاختبار قائماً، لكن الخوف على المشروع لم يعد قائماً، ولا يزال حمل الواجب الإلهي الإجماعي ملزماً، دون أن تتحول التحديات إلى تهديد وجودي في نظر الإمام الخامنئي، فـ “الثورة الاسلامية اليوم الشجرة الضخمة والصلبة، لا طوفان أو إعصار يستطيع اقتلاعها”.

ليس لدى الأمريكي، رأس الاستكبار، مشكلة مع الانتخابات، بل يروج لها في كثير من الساحات، لأنها تتيح له التلاعب بالرأي العام عبر الأحزاب والتمويل ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، لكن ما يضر بسياسات الهيمنة هو وجود معايير لهذه العملية الانتخابية تمنع تحولها إلى باب للهيمنة الأجنبية الظالمة والطاغية، وسيادة الشعب الدينية معيار حارس للهوية كما هي معيار يظلل مصالح الجمهور، ولذلك السعي الدائم للتحرر من تلك المعيارية العقلانية والشرعية الصلبة، وهذا المسعى يتلاقى مع أصوات في الداخل كما يعبر الإمام في خطابه وكما هو معروف للخارج بشكل أوضح منذ فتنة عام 2009، يقول الإمام: “البعض في الداخل كان وما زال يردد كلام الأعداء”،

مؤكدا أن “على الشعب الايراني ان ينتبه الى ان الاعداء يريدون اجتثاث جذور الاسلام وحاكمية الشعب الدينية”.

هذا الخطاب يستحق جهداً أكثر عمقاً واتساعاً، واستفادة من أهل الخبرات المتعددة، ومتابعة لصيقة لشؤون التجربة الإيرانية، غير أن الإلفات إلى بعض الإشارات، هو مساهمة أولية متواضعة في هذا السبيل، ليس إلا.

الكاتب،هادي قبيسي    المصدر؛iuvmpress.news

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال