الاستهداف الأميركي في سوريا.. موجة عابرة أم تصعيد منهجي 36

الاستهداف الأميركي في سوريا.. موجة عابرة أم تصعيد منهجي

يقف الأميركي داعماً لأوكرانيا ضد روسيا، على نحو يفرض على الروسي أن يساعد السوري على مواجهة المحتل الأميركي، ومن خلفه العدوان الصهيوني، وخصوصاً أن الأخير دخل في تناقض مباشر مع الروسي في الميدان الأوكراني.
بين مسار فيينا التفاوضي، وتصاعُد النار في شمال شرقي سوريا، مسافة شاسعة، يختصرها قلق الكيان المحتل من انبعاث الاتفاق النووي في فيينا. وهو قلق يسعى الأميركي جاهداً لتبديده، عبر الميدان السوري، وهو الميدان الذي تتجلّى، في تفاصيل تناقضاته الزمانية والمكانية، عقدة المشهد، أو لنقل ذروة الهاجس الصهيوني من اكتمال التموضع الإيراني عند عتبة الجولان السوري المحتل، وهو ما يؤدي إلى التصعيد المتبادل.

ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف قاعدة التنف الأميركية، وهي الوحيدة خارج مناطق سيطرة “قسد”، وتتموضع، منذ عام 2016، عند تقاطع الحدود السورية العراقية الأردنية، عبر وكالة فصيل “مغاوير الثورة”، وهي القاعدة التي أُقيمت لمحاربة “داعش”. وللصدفة، ما زال وجود “داعش” يتركز في البوادي القريبة منها، وهو وجود يتمّ تفعيله بين فينة وأخرى، ربما ليستجلب المبرّر الدولي لتمديد عمر الاحتلال الأميركي للأرض السورية.

وشملت هذه الهجمات، بالإضافة إلى التنف، قاعدتَي حقل العمر وكونيكو، وهي تأتي غداة العدوان الأميركي على دير الزور، والذي أمر به بايدن مباشرة، في ظل غليان الملف النووي في فيينا، و”استُهدفت فيه 7 منشآت بنية تحتية لحرس الثورة الاسلامية”، بحسب البيان الأميركي الرسمي، “من أجل حماية القواعد الأميركية من هجمات إضافية”. لكنّ هذه الهجمات تصاعدت واتَّسعت بعد ساعات من الاعتداء الأميركي على دير الزور، فهل يمكن لهذه الهجمات أن تتواصل بوتيرة منهجيّة، أم تظل حبيسة التناقضات السياسية والتطورات الميدانية؟

تجاوز المشهد السوري ذروة تناقضه الداخلي، عبر بسط الدولة سيطرتها على معظم الأرض السورية التي أقام فيها المسلحون دويلات وإمارات، تدعمها قوى خارجية، من واشنطن وأنقرة حتى “تل أبيب”، لتبقى جيوب في الشمال والشرق ترعاها هذه القوى بصورة مباشرة. وهو ما أرخى هذا المشهد على عتبة التناقضات الدولية بين واشنطن وموسكو، والتناقضات الإقليمية بين أنقرة وطهران. وجاءت قمة طهران الأخيرة، بين بوتين ورئيسي وإردوغان، لتدفع المشهد نحو التحريك الميداني، على وقع التناقض الأميركي التركي في الشأن الكردي، وهو ما دفع التركي إلى بدء عملية عسكرية تستهدف التعاظم الكردي في سوريا، وهو تعاظم ترى أنقرة أنه يهدد أمنها القومي، بينما تعدّ سوريا العمليةَ العسكرية التركية احتلالاً لأرضها تجب مجابهته.

معركة سوريا المؤجَّلة مع المحتلَّين الأميركي والتركي، وفي مواجهة الغارات الصهيونية المتواصلة، تدخل طوراً متغيّراً، في حال تصاعُد الهجمات ضد القواعد الأميركية في سوريا. وهي قواعد، ربّما يلخّص وجودها أصل المأساة السورية، وما ينبثق منها من أزمات، وما يتجدّد على وقعها من قضايا، على نحو يعكس إدامة النزف السوري في أقسى تجليّاته. ومواجهة هذه القواعد ربما تضع حداً للتركي في عدوانه، وقد احترقت كل أوراقه، ولم يتبقَّ منها إلّا الكردي كمبرِّر لتدخله. والكردي يرعاه الأميركي، فإذا تقلّص نفوذ الأميركي انتفت حجج التركي، وتوجّب عليه، حينها، ليس فقط الانسحاب من سوريا، بل الكفّ عن رعاية جَيب إدلب المنتفخ كدمّل في الجسد السوري.

يمتلك السوري وحليفه الإيراني، ومن خلفهما الصديق الروسي، كل مبررات استنزاف المحتل الأميركي في سوريا، وهو استنزاف لا يمكن للأميركي احتماله، وقد فشلت رهاناته على تغيير المشهد السوري، فترسّخ في انتمائه إلى محور المقاومة، بما يمثله من حلقة حاسمة في تواصل قوى المحور نحو مياه المتوسط، وخصوصاً أن الأميركي لا يكفّ عن مواجهة هذه القوى في عقر دارها. فهو يهاجم حزب الله، عبر خنق اقتصاد لبنان، ويفتعل الفِتَن الداخلية العراقية في مواجهة الحشد الشعبي، ويختطف ربع الأرض السورية، عبر دعم قوات “قسد” وعبر إنعاش جيوب “داعش” في البوادي العراقية والسورية.

ويأتي الهجوم الأميركي الصريح على دير الزور، ليؤكد عدم جدوى تأجيل استنزاف المحتل الأميركي. وهو استنزاف بدأ مع الردّ على الاغتيال الأميركي للفريق الشهيد سليماني، لكنه ظلّ في سياق محدود، لم يدفع الأميركي إلى إعادة حساباته. والكلّ يعي أن الأميركي لا يعيد هذه الحسابات إلّا إذا خسر أرواح جنوده، وأصبحت حركتهم عرضة للعبوات والقصف والقنص بوتيرة يوميّة. فهل تكون الهجمات الراهنة وغير المسبوقة في زخمها، باكورة استنزاف دموي للوجود الأميركي في سوريا؟

حرس الثورة الاسلامية على فصل أزمات الإقليم عن الاستحقاق النووي، وترك شؤون كل دولة لأهلها، ولم يتماهَ مع الأميركي في إدارة أزماتها، على نحو يعطي للإيراني وحلفائه في المنطقة حرية استنزاف الأميركي في البر السوري والخليج الفارسي، الأمر الذي يدفعه إلى الانكفاء النسبيّ، ثمّ نحو انكفاء كليّ حينما تتوافر القدرة على ذلك. لكنْ، هل السوريّ مؤهَّل، في هذه الظروف، لاستنزاف الأميركيّ، وخصوصاً في ظل النفوذ الروسي؟ لتأتي التطورات في أوكرانيا، حيث يقف الأميركي داعماً لأوكرانيا ضد روسيا، على نحو يفرض على الروسي أن يساعد السوري على مواجهة المحتل الأميركي، ومن خلفه العدوان الصهيوني، وخصوصاً أن الأخير دخل في تناقض مباشر مع الروسي في الميدان الأوكراني، إذ أُعلن مقتل أكثر من 75 يهودياً حتى الآن، وهم يقاتلون ضد روسيا في أوكرانيا.

تتعانق المبادئ الأخلاقية مع الظروف الميدانية والسياسية على الأرض السورية، لتفرض معطيات جوهرية، تدفع الأرض إلى أن تشتعل تحت أقدام الغزاة، وهي أرض تماسكت أطرافها بسواعد جنود سوريا في وجه المؤامرة، وطال انتظار طهرها من رجس المحتلين، ليعود عبق ياسمينها يفوح من عين العرب والحسكة حتى إدلب والجولان.

 

بقلم: محمد جرادات

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال