لسنوات طويلة خلت، كان الخطاب العربي – رسميًا وشعبيًا – ينطلق من فلسفة الضعف أمام الكيان الصهيوني، ما بين استكانة الأنظمة الرسمية واستسلامها، وبين الاعتراف بمكامن التفوق الصهيوني من جانب المقاومة العربية، كنا في موقف رد الفعل. وفي هذا الوضع العجيب ظلت الأمة أسيرة لفكرة تقبل الضربة الأولى، بكل ما تحمله من تكلفة باهظة، ولم تكن تتخيل أن توجه -هي- هذه الضربة أبدًا.
منذ زرع الكيان العدواني في أرضنا العربية، كان يدرك صانعوه ومشغلوه أنهم أمام محيط عربي واسع جدًا، في مقابل قلة المساحة والعدد التي قام بها واستمر عليها الكيان، وكان الحل في خلق مجموعة ثوابت غير قابلة للتنازل أو الاهتزاز، مثلت شروطًا مقدسة لاستمرار الكيان الصهيوني وضمان حياته.
يظل الأمن بالنسبة للصهاينة هو الحياة، والحياة هي الأمن، من دون الأمن يصبح الوجود ذاته محل شك عميق ومستمر.
الإستراتيجية الصهيونية فيما يتعلق بجوار “اسرائيل” العربي، كانت حاسمة بقدر ما كانت واضحة قاطعة. يعتمد الكيان على الكيف المحدود لديه، في مواجهة الكم العربي غير المحدود. وطوال سنوات وجود الكيان جرى دعم القلب الصهيوني الضعيف بموجات من الهجرة البشرية المنتقاة، كانت أضخمها في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي، فاستوردوا العلماء والفنيين، فيما كان التركيز العربي على شيء آخر تمامًا.
وفي إطار الدعم أيضًا، يستمر أنبوب الحياة المغذي من الغرب إلى الكيان الصهيوني ممتدًا مساندًا. خلال الشهور الأولى لجائحة كورونا والتي ضربت اقتصاديات كل دول العالم بشكل متفاوت، الكبرى منها قبل الأصغر، أعلنت شركات التقنية الأميركية، عن استثمارات بمليارات الدولارات بشكل مباشر في فلسطين المحتلة، وفي مايو/أيار الماضي وحده ضخ عملاق البرمجيات “إنتل” مليار دولار كاستثمار مباشر في مشروعاته مع تل أبيب، لتزيل كل شك عن تراجع صهيوني محتمل.
توفير الغطاء الغربي للكيان الصهيوني يأتي ضمن خطة ضمان بقاء أسطورة التفوق اليهودية حية في عيون وقلوب الشعوب العربية، كجزء من الصورة التي تريد فرضها على أبصارنا بشكل دائم.
والمتتبع لحروب الكيان الصهيوني العدوانية على الشعوب العربية، منذ 1948 وحتى حربها الأخيرة على لبنان في 2006، سيجد التطبيق الكامل للإستراتيجية الصهيونية، من امتلاك سلاح فائق الجودة والتطور لا تضاهيه أي دولة عربية، ثم الارتكان إلى جيش لا يمكن أن يسمح له بالهزيمة، وإن حدثت فسيجري تغطيتها وسلب النصر العربي، سواء في ساحات القتال أو في معاهدات استسلامية، كما حدث في أكتوبر/تشرين أول 1973.
في كل تحرك صهيوني لمواجهة أي تحدٍّ عربي، كانت المبادرة وباستمرار هي ما تحكم العقلية الحاكمة بتل أبيب، مبادرة تعني أن كيان العدو لا يمكن أن يتلقى الضربة الأولى، من باب الحقائق الواقعة على الأرض، فلا المساحة الصغيرة ولا التركيب منقوص النمو الاقتصادي/الاجتماعي للكيان يسمح له أن يتحمل عواقب خوض الحرب على أرضه، على الإطلاق.
وتكفل السلاح الصهيوني طوال سنوات في إبقاء التهديد بعيدًا جدًا عن مدنهم، ونقل المعركة باستمرار إلى الأراضي العربية، وكانت التغطية الغربية جاهزة للعدوان الصهيوني الدائم، وكانت مخازن السلاح الأميركية مفتوحة على مصراعيها تمنح وتعوض وتدعم، وتحرص على أنه مهما طالت المعارك ومهما بلغت التكاليف فإنها ستسدد.
لكن لكل بداية نهاية، خاصة وإن كانت بداية مزيفة، مضادة للتاريخ والجغرافيا وحقائق الأرض والبشر، وقد تكفل سماحة السيد حسن نصر الله بحمل لواء دفن الفكرة الصهيونية، مثلما حمل أمانة حرب تموز 2006، وفكك بها ثوابت نظرية الأمن والاستمرار لدى الكيان الصهيوني.
إعلان السيد نصر الله أن سفينة المحروقات القادمة من الجمهورية الإسلامية أرض لبنانية، بما يستتبعه من فرض الحماية من سلاح حزب الله عليها، هو أول إعلان حرب عربي ضد الكيان الصهيوني، وأول انتصار عربي – بشروطنا لا بقواعدهم – تحقق، سواء غامرت تل أبيب بالتعرض للباخرة أو ابتلعت الضربة ومعها الهزيمة العاجلة.
في حال قرر الصهاينة المغامرة، فإننا أمام حرب واقعة، لكن لأول مرة لن يفتتح الطيران الصهيوني الحرب في المدن العربية، ولن تمطر السماء القنابل والصواريخ على رؤوسنا وحدنا، ولأول مرة لن تكون ساعة الصفر للعمليات اختيارًا من الصهاينة، ولأول مرة سيتحول الصهيوني إلى صاحب الضربة الثانية لا الأولى في حرب مع طرف عربي.
الخطاب الأخير للسيد لا يمثل تحديًا جديدًا للكيان، وفقط، السيد حسن نصر الله، ضرب مستقبل المشروع الصهيوني القائم على أرض فلسطين، أبعد وأعمق مما قد نراه بعيوننا أو نفكر في آثاره الآن، وحطم الفكرة الصهيونية للاستمرار عند أساسها تمامًا.
أحمد فؤاد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال