مرت مؤخرا الذكرى الخمسون لـ «استقلال» البحرين في أجواء هيمن عليها الجمود والترقب والحذر القلق. فلم يتوقف عندها نظام الحكم في هذا البلد الخليجي الذي يهيمن عليه الاضطراب السياسي منذ الانسحاب البريطاني في 1971.
ولم تكن هناك إجازة رسمية بالمناسبة تتيح للمواطنين الاحتفاء بها بما يليق من أساليب. بينما اهتمت المعارضة بالمناسبة بفعاليات متميزة. وقلما يحدث تباين في الموقفين الرسمي والشعبي كهذا في البلدان الأخرى. فقد اعتادت الدول الاحتفاء بذكرى استقلالها على الصعيد الرسمي تقديرا للنضال ضد الاستعمار وتأكيدا للارادة الوطنية التي كانت في أغلب الحالات السبب المباشر للاستقلال. فقد نشطت الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار في البحرين خصوصا في العقود الثلاثة التي سبقت الانسحاب، ابتداء من أيام الحرب العالمية الثانية. يومها كان البحرانيون يعبرون عن رفضهم الوجود البريطاني على أرضهم بالاستماع إلى راديو برلين وتشغيل المذياع بصوت صاخب في المقاهي خصوصا في العاصمة، المنامة. وكثيرا ما تدخل المستشار البريطاني أنذاك، تشارلز بلغريف لمنع ذلك بالتصدي لأصحاب المقاهي ومعاقبتهم. شخصيا شاركت، وأنا طفل في نهاية المرحلة الابتدائية، في التظاهرات التي عمت البلاد في العام 1965 التي رفعت شعارات منها «يسقط يسقط الاستعمار». وكان من بين مطالب انتفاضة الخمسينيات بقيادة «هيئة الاتحاد الوطني» التي كانت قيادتها الثمانية مكوّنة بشكل متساو من الشيعة والسنة طرد المستشار المذكور الذي كان قد عيّن في العام 1926 بقرار من المعتمد السياسي البريطاني في البحرين آنذاك، الميجور ديلي.
في الأيام القليلة الماضية احتفت المعارضة البحرانية بذكرى «الاستقلال» بفعاليات عديدة. فقد أقيمت الندوات خارج البلاد والاعتصامات، ونشرت التغريدات التي تعتبر ذكرى الانسحاب البريطاني «عيدا وطنيا» لأنه كان نتيجة أسباب من بينها النضال الوطني. وحدثت نقاشات كثيرة حول اوضاع البحرين وتطوراتها خلال نصف القرن الماضي. فما أن أعلنت بريطانيا اكتمال إجراءات الانسحاب في 1971 حتى أعلن قيام «دولة البحرين» وبدأت الإجراءات للتعامل كدولة سيادية، فانضمت للأمم المتحدة، وأصبحت عضوا بالجامعة العربية. وتشكلت أول حكومة رسمية برئاسة الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الذي بقي رئيسا للوزراء حتى وفاته في 2020. وأصبحت هناك وزارات ووزراء. وجاء الانسحاب البريطاني لينهي الجدل حول مطالبة إيران بالبحرين، من خلال استمزاج آراء المواطنين من قبل مبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ربيع 1970. كانت نتيجة ذلك «الاستفتاء» إصرار الشعب على نيل استقلاله وإقامة نظام سياسي يشارك فيه الشعب مع عائلة آل خليفة ضمن صيغة شبه ديمقراطية. تبع ذلك خطوة مهمة بالإعلان عن بدء الإجراءات لصياغة دستور دائم للبلاد من خلال مجلس تأسيسي ينتخب الشعب نصف اعضائه. وبعد الانتخابات في 1972 بدأ العمل بكتابة الدستور الذي أنجز في غضون ستة شهور، وكان شبيها بدستور الكويت الذي وضع بعد استقلالها عن بريطانيا في العام 1961. دستور البحرين نص على تنظيم ممارسة برلمانية على غرار تجربة الكويت بانتخابات تفضي لمجلس وطني يمتلك صلاحيات واسعة، ولكنه لا يملك حق تشكيل الحكومة.
في غضون ذلك لم تتوقف الحركة الوطنية عن نضالها من أجل الاستقلال الكامل، فأعلنت مقاطعة الإجراءات الجديدة كالانتخابات، وصعّدت نشاطها النقابي الذي شمل عمال شركة ألومنيوم البحرين «ألبا» وموظفي شركة النفط «بابكو».
وحدثت اعتقالات واسعة في صفوف المنتمين لـ «جبهة التحرير الوطني البحرانية» وهي تنظيم يساري يتبنى الشيوعية كان قد تأسس في العام 1955. وكان من أول التنظيمات التي تعرضت كوادرها للقمع السلطوي. وتكشف رسالة كتبها المعتقلون السياسيون في 2 يناير 1974 موجهة لرئيس المجلس الوطني، تم تسريبها من داخل السجن عمق معاناتهم في المعتقلات.
وجاء في تلك الرسالة التي وقعها 15 شخصا: أن اعتقالنا وتفتيش منازلنا وما تعرضنا ونتعرض له من التعذب الوحشي، المادي والمعنوي، والمعاملة الحاطة بالكرامة الانسانية.. ولم توجه لنا تهم محددة، أمر خطير وغير إنساني… لذلك نطالبكم بالتحرك لوضع حد لهذه الانتهاكات. وبعد حوالي 50 عاما يتكرر تسريب رسائل مشابهة من السجون نفسها التي كانت تضطهد المعتقلين في ذروة «التجربة البرلمانية». فما الذي تغير إذن؟
لا يمكن تقييم تجربة نصف قرن من الممارسة السيادية لما كان يسمى «دولة البحرين» بعد الانسحاب البريطاني بدون التطرق لمآلات هذه الدولة التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن من توتر سياسي داخلي لم يتوقف طوال تلك الحقبة. فبعد تصديق الأمير السابق، الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، على الدستور الذي كان يعتبر عقدا بين الشعب وعائلة آل خليفة الحاكمة، أجريت الانتخابات في ديسمبر 1973 لعضوية «المجلس الوطني».
وقد شهد المجلس حالة من الاستقطاب السياسي والايديولوجي خصوصا بين «الإسلاميين» الذين كانت مجموعتهم تسمى «الكتلة الدينية» واليساريين «الكتلة الوطنية». هذا الاستقطاب لم يمنع من تعاون الطرفين إزاء القضايا المشتركة خصوصا ما يتعلق منها بالحريات العامة والأمن السياسي. فعندما سعت الحكومة لتمرير «قانون أمن الدولة» في 1974، باقتراح من رئيس جهاز الأمن العام، إيان هندرسون، الذي كان من أبرز آثار التركة البريطانية، حتى توافق أعضاء المجلس الوطني على رفضه. فكان رد حكومة الشيخ خليفة بن سلمان الإجهاز على «التجربة الديمقراطية» بقرار أصدرته حكومته في 25 أغسطس 1975 ذي شقين: الاول تجميد العمل بعدد من مواد الدستور تتعلق بتنظيم الممارسة الانتخابية، والثاني حل المجلس الوطني.
وبرغم أن الدستور ينص على إجراء انتخابات لمجلس جديد خلال شهرين الا أن ذلك لم يحدث، وبقيت البلاد تعاني تحت وطأة قانون أمن الدولة الذي كان يمنح وزير الداخلية صلاحية اعتقال من يشك في نشاطه السياسي لمدة ثلاثة أعوام قابلة للتجديد.
وعلى مدى ربع القرن اللاحق مارست أجهزة الامن التي كانت بإدارة أشخاص بريطانيين من القمع والاضطهاد ما وثقته تقارير الجهات الحقوقية الدولية.
على مدى العقود الماضية احتفى شعب البحرين بذكرى الاستقلال ولكن الحكومة ترفض ذلك وتحتفي بالسادس عشر من ديسمبر من كل عام للاحتفاء بذكرى استلام الأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة الحكم في 1961. وفي أغلب الأحيان تحل المناسبة في اوضاع داخلية مضطربة، الامر الذي كثيرا ما يضفي عليها قدرا من الأهمية السياسية والإعلامية. فمنذ الانسحاب البريطاني لم تهدأ أوضاع البحرين، بل شهدت اضطرابا متواصلا منذ حل المجلس الوطني. فقد أعقب ذلك حملة اعتقالات واسعة طالت أعضاء المجموعات الليبرالية. وفي 1994 انطلقت الانتفاضة الشعبية التي استمرت ستة اعوام أعقبتها تجربة سياسية محدودة تمثلت بالتصويت على ميثاق طرحه الحاكم الحالي للتصويت في 14 فبراير 2001. وبعد عام من ذلك ألغي دستور البلاد (الذي أقر في 1973) واستبدل بدستور كتب من طرف واحد. وهكذا توفرت الظروف لحدوث أكبر ثورة شهدتها البلاد في تاريخها في 14 فبراير 2011، التي ما تزال ذيولها مستمرة حتى الآن.
ان ذكرى الاستقلال مناسبة للتذكير بأمور عديدة: أولها دور النضال الوطني في تحقيق استقلال البلاد، ثانيا: التركة الاستعمارية الثقيلة التي ما تزال البلاد تئن تحت وطأتها. ثالثا: دور الموقف الوطني في تحديد هوية البلاد بعد الانسحاب البريطاني رابعا: مدى نجاح الآمال التي عقدها الشعب على الاستقلال والتي كان موعودا بها من قبل حكومته. خامسا: طبيعة المفاوضات التي سبقت الانسحاب البريطاني بين الدول المعنية بذلك. هذه القضايا تؤكد حقيقة واحدة: أن البحرين لم تشهد استقرارا سياسيا منذ انتهاء حقبة الحماية البريطانية قبل خمسين عاما.
المصدر: القدس العربي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال