ــ بالمعنى القانوني ما سيوقعه لبنان ليس إلا رسالة جوابية من عدة سطور فقط، على الوثيقة الأميركية بقبول الاعتراف الأميركي المفصل بالمطالب اللبنانية، وبموجب الالتزام الأميركي بالنيابة عن كيان الاحتلال الوارد في الوثيقة الأميركية، سيوجه لبنان رسالة ثانية موجزة إلى الأمم المتحدة يستبدل عبرها إحداثيات تحديد مصالحه الاقتصادية بإحداثيات جديدة سيؤكدها الكيان برسالة موازية، ومَن يقرأ النص سيكتشف بسهولة ان حجم الفقرات ومواضيعها ليست بنوداً متوازنة في الإجابة على تساؤلات الطرفين، لبنان والكيان، لتشكل مادة اتفاق، بل هي كناية عن أربعة سطور تشكل القواعد الأساسية لتحديد الحقول الاقتصادية، عبر الخط 23 وحقل قانا، والباقي ضمانات أميركية لتلبية الطلبات اللبنانية، حيث فقرة خاصة للقول إن ما سيقوم بين حكومة الكيان والشركة المشغلة في حقل قانا لن تنال من حقوق لبنان الصافية، وأن أي خلاف حول التعاقد الجانبي بين حكومة الكيان والشركة المشغلة لن تكون له أي تبعات على عقد الشركة المشغلة مع لبنان، وفقرة خاصة تقول إن بقاء خط الطفافات في المنطقة الملاصقة للبر نتيجة عدم ترسيم الحدود في هذه المنطقة «غير المحددة» لا يعني اعتبار الخط حدوداً دولية، فتلك رهن تفاوض ينتهي بترسيم لم يتم بعد، ويمكن أن يتم بالتزامن مع إنهاء الإشكالات في الحدود البرية او بمعزل عنه، وللبنان الحق بالاحتفاظ بموقفه القانوني من خط الطفافات وعدم شرعيته، والتأكيد على أن ما نحن بصدده ليس ترسيماً، طالما انه ليس اتفاقاً بالأصل، والدليل هو أن حقل قانا الذي يتجاوز الخط 23 جنوباً الى مدى غير معلوم وسيقرره حجم الحقل حسب من ضمن حقوق لبنان الصافية، وفتحت الوثيقة الأميركية الباب لحقول مثله يتم اكتشافها.
ــ بالمعنى القانوني لسنا أمام اتفاق لبنان إسرائيلي، ولسنا أمام اتفاق ترسيم، هذا ببساطة التحرير الثالث، بعد التحرير الأول عام 2000 للشريط الحدودي المحتل والعودة الى الوضع قبل اجتياح عام 1978، والتحرير الثاني من الإرهاب للجرود الشرقية في البقاع عام 2017، وهذا هو التحرير الثالث لثروات النفط والغاز في البحر المتوسط، ولذلك فإن المطالبة بمزيد من الثروات واعتبارها محتلة بما يشبه مزارع شبعا، أو حتى لو كان يشبه القرى السبع المحتلة والواقعة خارج الحدود المعترف بها دولياً، لا يجوز أن يغير من النظرة لما جرى بصفته تحريراً ثالثاً، خصوصاً أنه جاء بقوة التلويح بالذهاب للحرب، وفتح الباب لمخرج قانوني أمام الثنائي الأميركي الإسرائيلي، الذي بنى كل حساباته على البقاء خلف شريط بحري محتل يقع خلف خط فريديريك هوف، ليحتفظ لكيان الاحتلال بالحقول التي تمثل كنوز المتوسط، والتي تمثلها خزانات الغاز في حقلي كاريش وقانا.
ــ الذي يرفضون توصيف التحرير الثالث، ويرفضون اعتبار ما جرى إنجازاً، ليسوا مخلصين لفكرة الدعوة للمزيد من التحرير للمزيد من الحقوق، كمثل من وقف بعد التحرير الأول يقول ما جرى هو انسحاب اسرائيلي طوعي وفق القرار 425، ويتحدى المقاومة لو كانت سبباً للتحرير بأن تحرر مزارع شبعا أو حتى القرى السبع وهو كان ضد المقاومة أصلاً، أو من وقف بعد التحرير الثاني ويقول إن ما جرى لم يكن تحريراً بل حل مهين مع الارهاب ويستخدم انتقال الإرهابيين بالباصات الى خارج المنطقة، دليلاً ليتحدى المقاومة بالقول إن كان تحريراً فلم لا تستعيدون من سورية أراضي مختلفاً عليها، ولم يتم ترسيم الحدود فيها بعد، وهو من الذين ناصبوا المقاومة العداء على مدى المعارك كلها. وهذه البضاعة من الأفكار والمواقف موجودة ورافقت التحريرين الأول والثاني، وليس مستغرباً تكرارها واجترارها مع التحرير الثالث، خصوصاً أننا عندما ندقق في التحرير الأول سنكتشف أن المشككين هم الذين كانوا عند بداية الاحتلال يقاتلون معه، وأن المشككين في التحرير الثاني هم الذين بشروا اللبنانيين بأن الإرهابيين هم حلفاء وأصدقاء ولا يجوز القلق من وجودهم، حتى عندما خطفوا جنود الجيش اللبناني وعناصر قوى الأمن الداخلي، فمن هم الذين يشككون بالتحرير الثالث؟
ــ هم المشككون بالتحريرين الأول والثاني، ومعهم رف زغاليل التغيير، الآتي بعضهم من رحم بيئة المشككين بالتحريرين التي عرفت باسم قوى 14 آذار، وبعض جديد دخل الشأن العام تحت مسمّى المجتمع المدني، ممول ومشغل في عنواني النزوح السوري وتعويضات خسائر انفجار مرفأ بيروت بمئات ملايين الدولارات، وينسب لنفسه مادحاً صفة الثوار، وكما قيل إن مادح نفسه كذاب، ولذلك لا يخجل هؤلاء من الدعوة لبقاء النازحين، ولا يخجلون من التسبب بإصابتهم بالكوليرا لسرقتهم الأموال المخصصة لتأمين المياه النظيفة لمخيماتهم، كما لا يخجلون من فضائح الفساد التي لحقت بالأموال الواردة لمساعدة ضحايا انفجار المرفأ، ولا من المتاجرة بقضيتهم لتوظيفها في السياسة. فمن هم المشككون بالتحرير الثالث؟
ــ يمثل النائب مارك ضو الصوت الأبرز لنواب التغيير الـ 13 في تناول ملف الغاز والنفط ومن خلفه الأمينة العامة لحزب تقدم الذي ينتمي إليه، وفي تسجيل فيديو منشور يقدم ضو، الآتي على صهوة جواد حراك 17 تشرين، إرشادات لديفيد هيل حول كيفية إضعاف حزب الله، والأميركيون لم يخفوا يوماً أنهم سعوا عبر علاقاتهم بمجموعات في الحراك، يظهر الفيديو المنشور أن ضو من بينها، لتحويلها الى قوة ضغط لإضعاف حزب الله، وفقاً لوصفة الدبلوماسي الأميركي السابق والعريق في متابعة الملف اللبناني، جيفري فلتمان، بشهادته أمام الكونغرس، وقوام الوصفة إظهار قوة حزب الله سبباً لما أسماه بـ «الفقر المؤكد»، وشرح زميله ديفيد شنكر معنى ذلك بتوضيح كيفية إنفاق الادارات الاميركية عشرة مليارات دولار، حسب قوله أمام احدى لجان الكونغرس على تمويل ناشطين واعلاميين للانخراط في حملات تحريض ضد حزب الله من جهة، وإفلاس مصارف عبر العقوبات من جهة ثانية، والتحكم بتصنيفات لبنان الإئتمانية عبر الشركات العالمية من جهة ثالثة، ومنع إمداد لبنان بالكهرباء عبر سورية سواء من الأردن او عبر توفير الغاز المصري بذريعة العقوبات من جهة رابعة. وشنكر نفسه يقول في مقال له أمس في وول ستريت جورنال، إن تقنية ما جرى في التفاوض واضحة لواشنطن، لقد تقاسم الرؤساء اللبنانيون مع حزب الله معادلة التهديد باعتماد الخط 29، لمنح حقل كاريش صفة الحقل المتنازع عليه، ليقوم حزب الله بالتهديد بقصف منصات الاستخراج منه، صولاً الى نيل الخط 23 وحقل قانا كاملين، مستخلصاً أن حزب الله انتصر انتصارا كاملا، وأن لبنان نال مطالبه كاملة. ولا يخفي شنكر ومثله فيلتمان ومثلهما هيل، حزنهم وكآبتهم لما جرى، كمثل الحزن والكآبة التي حلت بهم بعد حرب تموز 2006، بسبب فشل مشروع مخاض الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به غونداليسا رايس، وترجم حزنها وحزن فريقها كاملاً، لبنانيون صوروا النصر اللبناني يومها هزيمة، فهل نستغرب أن يحزن من يوازونهم اليوم في لعب الأدوار، وهل يجوز أن ننصرف لمساجلتهم، بينما هناك ما هو أهم بكثير يجب الا يحجب رؤيته عن عيوننا هذا الدخان، حتى لو تسبب بالإزعاج؟
ــ ما هو أهم بكثير هو أن المعادلة الاستراتيجية تغيرت، فالتحرير الثالث يقول إن «اسرائيل» تحولت من ذراع أميركية لتركيع المنطقة بقوة التهديد بخوض الحرب، الى وديعة أميركية كسيحة عاجزة عن خوض الحرب، تجب حمايتها من خطر الحرب بدفع الفدية، وبالمناسبة من يتحدثون عن وجود خطة ذكية وراء القرار الأميركي الإسرائيلي بتلبيسة مطالب لبنان، اسمها الازدهار يجلب الاستقرار، يفعلون ذلك لانهم عبيد الأميركي ومسكونون بثقافة الهزيمة، لأنهم لا ينتبهون أن قرار ادارة الرئيس دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع ايران عام 2018 جاء حصيلة قراءة سياسية واستراتيجية اميركية اسرائيلية لنظرية الازدهار يجلب الاستقرار التي تمّ ترويجها مع توقيع الاتفاق عام 2015، وتقول هذه القراءة إن الوقائع أثبتت أن إيران موّلت من عائدات الاتفاق انتصارات سورية في حلب، والصواريخ الدقيقة لحزب الله، وبناء عليه جاءت خطة الضغوط القصوى التي قامت على نظرية التجويع وصولاً للتركيع فالتطبيع. وشنكر أدق وأصدق ممن يقوم بتشغيلهم بقوله إن اتفاق النفط والغاز لن يجلب الأمن لكيان الاحتلال، ولا الاستقرار، ويقول جنرال اسرائيلي سابق إن لا شيء يمنع حزب الله غداً أن يكرر ما جرى في حقول النفط والغاز في مزارع شبعا، وربما يفعل ذلك بالتعاون مع المقاومة السورية في التعامل مع القوات الأميركية في سورية، فيكون التحرير الرابع والخامس، ومثله يفعل أنصار الله اليوم في وضع شروط فك الحصار لتمديد الهدنة ممسكين بيدهم مستقبل الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ومثلهم بدأت غزة تستعدّ لترسيم بحري لحقول النفط والغاز على الطريقة اللبنانية.
ــ تحرير يلي تحريراً في زمن المقاومة، ومن يريد البقاء في زمن الهزيمة فدعوه وحده.
ناصر قنديل
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال