لا شك أن اللحظة الراهنة في العالم تنطبق عليها بدقة شديدة مقولة الفيلسوف الهولندي الشهير “باروخ سبينوزا”، وهي: “إن غياب الحرب لا يعني السلام”.
فالكيان الصهيوني يحاول شرعنة وجوده تحت مسميات السلام والتنمية والتعايش، والاحتلال الأمريكي يدعي أنه يهيمن ويسرق ويقتل لإحلال السلام، وهذا أكبر مصداق لما يراه المقاومون بأن طرد أمريكا وزوال الكيان هما السبيلان الوحيدان لتحقيق السلام.
وفي هذه الأيام التي يحتفل بها الأحرار بذكرى انتصار الثورة الإيرانية والتي قطعت الطريق على دخول المنطقة في حقبة صهيونية، ينبغي إلقاء الضوء على عدة نقاط ومفاهيم قد تكون غائبة أو غير بارزة بالشكل اللائق لها:
1- العداء بين الجمهورية الإسلامية من جهة والكيان الإسرائيلي وأمريكا من جهة أخرى، ليس مجرد عداء بين دول أو صراع تفرضه مصالح، فلا حدود مشتركة بين إيران وفلسطين المحتلة ولا صراع على الهيمنة الدولية بين إيران وأمريكا، وإنما هو صراع مبدئي أيدلوجي، بين الهيمنة والنهب والاستعمار من جهة، والاستقلال الوطني والمقاومة والعدالة من جهة أخرى، وهو ما يتجسد في تحول الصراع لمعسكرات وجبهات ومحاور تتخطى نطاق الجغرافيا، حيث معسكر تابع لأمريكا والصهاينة في مواجهة معسكر ومحور المقاومة.
هنا تخطت الثورة الإيرانية حدودها، ولكن ليس بمفهوم الدعايات المغرضة التي تحدثت عن تصدير الثورة لقلب الأنظمة الحاكمة وتمدد “النفوذ الإيراني”، ولكن تخطته بقوة ناعمة صدرت مفاهيم الكرامة والاحتفاظ بالهوية والاستقلال الوطني والثورة على الفساد والعمالة والسعي للتحرر الوطني ومقارعة الاستكبار بكافة صوره.
2- حاولت الدعايات ولا تزال، الايحاء بأن رجال الدين قد اختطفوا الثورة وقفزوا عليها وغيروا وجه إيران المدني لوجه ديني متزمت ورجعي، وهو ما يتعارض مع الحقائق التاريخية والراهنة.
فالتاريخ يقول إن رجال الدين كانوا في طليعة الثورات والاحتجاجات منذ ثورة التمباك في العام 1890 ميلادية، مرورا بكل محطات الثورة والتي نفي فيها الإمام الخميني(قده) واعتقل ونكل به وفقد ولده، ودوره المركزي في تثوير الشعب عبر خطاباته المسربة من الخارج والتي كان يتلقفها الإيرانيون وينتظرونها، ناهيك عن الاستقبال التاريخي والوداع الأسطوري في جنازته، وهي دلائل دامغة على شعبية جارفة لا تكون لمن اختطف أو قفز على النضال.
كما أن الثورة على سياسة التغريب التي اعتنقها الشاه لم تكن قاصرة على المتدينين بل اشترك بها القوميون وكثير من العلمانيين الحريصين على الهوية، وبالتالي فقد استعادت الثورة وجه إيران ولم تغيره.
ولم تفرض وجهًا رجعيًا بل أسست للنهضة والحداثة وأعادت المؤسسات لخدمة الشعب، والإحصائيات تشهد على ما حققته إيران في العقود الأخيرة من تقدم ونهضة رغم الحصار والحرب التي تشن عليها من مختلف الجبهات.
3- لم تدعي الثورة أنها بلا أخطاء وأنها معصومة وأن كل جهاتها التنفيذية ملائكية، بل يخرج آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي دومًا لتصويب المسارات أولا بأول ويوجه الانتقادات ويطالب بالإصلاحات، كما توجد آليات للمحاسبة والمكاشفة وشفافية لا تتوفر لدول تدعي الديمقراطية الغربية في محاسبة المتورطين بالفساد أو الإهمال.
4- المعادون للثورة الإسلامية لم يقدموا دليلا على عداء أو استهداف وجهته الثورة لهم، بل يحاسبونها بأثر رجعي على أوضاع موروثة منذ حكم الشاه وتمت باتفاقات وتراض بينهم وبينه، مثل قضايا الجزر، ولم تتورط إيران في تمويل التكفيريين ولا في ارسال الإرهابيين الذين قتلوا الشعوب العربية والإسلامية بفتاوى الوهابية لا بفتاوى الثورة الاسلامية والتي لم توجه فتاوى الا بقتال الأعداء وتحرير الأراضي المغتصبة.
والمتأمل للفراغ العربي بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر والذي قدم الدعم للإمام الخميني، وبعد الانقلاب الاستراتيجي بخروج مصر من معسكر التحرر الوطني وخطيئة الاعتراف بالكيان وعقد معاهدة للسلام المزعوم معه، يرى أن الثورة الإسلامية جاءت في توقيت بالغ الأهمية، وهي إنقاذ للمنطقة من الوقوع في براثن حقبة صهيونية، كانت ستتحول معها القوى الإقليمية الكبرى مثل مصر وايران وتركيا إلى المعسكر الأمريكي، ومضافا اليهم أموال الخليج وحصار القضية ومن يتصدى لها في أي بقعة عربية أخرى وتصفيتها، وهو ما كان مخططا، ولم تفسده إلا ثورة أعلنت أمريكا شيطانًا أكبر، ورفعت راية القدس كهدف استراتيجي لإزالة الكيان وطرد الاحتلال.
هنا تبرز المواجهة الكبرى، بين الثورة الإسلامية ومحور المقاومة بنشر ثقافة المقاومة ودعم حركاتها وبناء الردع والسعي الدؤوب نحو التحرير، وبين شيطان أكبر أمريكي ومنظمات الصهيونية العالمية التي تتخطى حدود فلسطين المحتلة ودولة الكيان المزعومة، لتصل إلى زراعة جمعياتها ومؤسساتها في مختلف دول العالم وعلى رأسها أمريكا.
إن الصهيونية العالمية ممثلة في المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي والمؤتمر اليهودي والجمعيات الصهيونية واللوبيات المنتشرة في مختلف دول العالم، لا تجد مقاومة تناسب انتشارها السرطاني ومؤامراتها الشيطانية إلا في ثورة كبرى تنشر ثقافتها وتتخطى حدودها بقوة ناعمة لا بهيمنة واستعلاء، وتدعم حركات المقاومة للتصدي لهذا المشروع السرطاني في جبهاته المختلفة.
هذا هو البعد الغائب عن كثير من الجماهير العربية والإسلامية، والتي يجب أن تدين فيه بالفضل لثورة عوضت غياب التحرر الوطني وأنقذت أوطانهم من الافتراس الصهيو- امريكي، وقدمت ولا تزال التضحيات والتي تعاقب فيها على خياراتها وتوجهاتها.
إيهاب شوقي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال