الحديث عن الحج مهمٌ كونه أكبر اجتماع للمسلمين يحدث حول الكعبة، وهو مظهر من مظاهر التوحيد. ومناسك الحج مأخوذة من سيرة النبي إبراهيم (ع) المعروف في القرآن كبطل التوحيد. لذلك يُعدّ الحج، وهو أكبر تجمّع للمسلمين، أعظم رمز ومظهر للتوحيد. وعلى هذا الأساس، فإن تحليل مراسم الحج يعتمد بشكل عام على دراسة مسألتين:
1- موضوع التوحيد
2- موضوع اجتماع المسلمين واشتراك المسلمين في أمور الحج
في هذا المقال سنتطرّق بشكل أساسي إلى موضوع الحج من البعد التوحيدي، وبعد ذلك سنشير بإيجاز إلى الموضوع الآخر.
يُطرح موضوع التوحيد بين المفكرين المسلمين عموماً على أنه عقيدة نظرية ومجرّد معرفة. معرفة ودراية الإنسان حول مبدأ الخلق. لذلك، فإن ما ينشأ بالتبعية عن قضية التوحيد هو الموضوع العام لمعارف الإنسان.
يعلم كلّ إنسان حقاً أن معارفه ليست بنفس الأهمية، بعض المعارف أكثر أهمية وبعضها الآخر بلا أهمية. إن تلك المعارف التي لا تحدث أي تغيير في مجرى حياة الإنسان؛ ليس لها أيّ أهمية عند الإنسان.
بالطبع، في هذا المقال القصير، لا يوجد مجال لتحليل كامل لهذه القضية، ولكن من الواضح أن التغيير والتطور يعتمدان أولاً على المعرفة الدقيقة، وثانياً على اختيار هذا المسار وعبوره من قبل الإنسان. على هذا الأساس، في المصادر الروائية، قُسّمَ العلم إلى نوعين من النافع وغير النافع، وفي بعض هذه الروايات يُعتبر العلم غير النافع هو العلم الذي لا يعمل به الإنسان.
المعرفة التوحيدية ليست مستثناة من هذه القاعدة. إن معرفة الإنسان بوجود أصل الخلق تكون مفيدة للإنسان فقط عندما يكون هذا الهدف والطريق لتحقيقه واضحين للإنسان، وعندما تؤدي في النهاية إلى حركة الإنسان في هذا الطريق من خلال الأعمال الاختيارية. لذلك، فإن التوحيد الإسلامي هو توحيد لا ينفصل فيه المجال النظري عن المجال العملي.
هنا تُطرح هذه المسألة، ما العمل الذي تتطلبه الرؤية التوحيدية بشكل عام؟ تتحدد الإجابة على هذا السؤال من خلال دراسة مفاد التوحيد. في المجمل، إن الرؤية التوحيدية هي اعتبار أصل الخلق واحداً وأحداً. لذلك يوجد مفهومان في الرؤية التوحيدية:
الخالقية، ووحدانية الخالق. يقدّم المفهوم الأول العلاقة بين الإنسان والله علاقةً بين المخلوق والخالق. يتم تقديم هذه العلاقة عملياً في شكل عبادة الإنسان وطاعته لله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (البقرة، 21). وهو ما عرّفه في القرآن على أنه الهدف من خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات، 56).
أما المفهوم الثاني، وهو أساس التوحيد الذي بدونه لا يُعرَف شأن الله – تعالى -، مسألة الوحدانية ونفي الشرك. إذا كان الإيمان بخالقية الله ينعكس عمليّاً على شكل عبودية الإنسان لله، فإن وحدانية الخالق أيضاً تنعكس في انحصار هذه العبودية والطاعة لله سبحانه وتعالى في عمل الإنسان.
هذا المفهوم واضح تماماً في كلمة التوحيد، أي لا إله إلا الله. إن إنكار كل ما يعبد ويطاع من دون الله ورد في الجملة القصيرة «لا إله إلا الله». باختصار، إن ما يوضع في التوحيد جنباً إلى جنب من حرية وعبودية هو تحرّر الإنسان من عبودية كل شيء دون الله، وعبودية وإطاعة أمر أصل الخلق. من الضروري التأكيد هنا على أن عبودية الإنسان لأي مخلوق تتحقق من خلال طاعة الإنسان لأوامر ذلك المخلوق، وعلى النقيض من ذلك، فإن تحرّر الإنسان من عبودية مخلوق ما يتطلب عدم الطاعة له. بعبارة أخرى، العبودية لأي مخلوق تعني قبول هيمنته. لذلك فإن التوحيد النظري يتطلب طاعة الله وقبول هيمنته وإنكار طاعة غير الإله وعدم قبول هيمنتهم. وبما أن الحكومات هي أعظم مصاديق الولاية والهيمنة في المجتمعات البشرية، فإن النتيجة العملية الأبرز للتوحيد هي رفض الحكومات التي لا تمثّل هيمنة الله وحاكميته على الأرض، وفي المقابل، إنشاء أو اتّباع حكومة متشكلة على الأرض بالنيابة عن الله.
بالطبع سوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً للحديث عن ماهية الحكومة الإلهية والمسؤول عن تشكيلها وتنفيذ قوانينها، ولكن باختصار يمكن القول إن الحكومة الإلهية هي حكومة تنطبق قوانينها مع أوامر الله، ومستمدة من مصدر الوحي. هذه القوانين يتم تنفيذها في الدرجة الأولى من قبل الأنبياء وأوصيائهم، وفي حال غيابهم، من قبل أولئك الذين تم تحديد خصائصهم والشروط اللازمة لشرعية ممارسة حاكميتهم في المصادر الروائية. وهذه الصفات هي معرفة القوانين الإلهية بالإضافة إلى امتلاك صفات العدل والتقوى.
يؤكد القرآن الكريم صراحةً على التناقض بين العبودية لله التي هي نتيجة مباشرة للتوحيد، وقبول سيطرة القوى غير الإلهية: {وَلَقَد بَعَثْنا في كُلّ أُمّةٍ رَسُولاً أنْ اعبدُوا الله واجْتَنِبُوا الطاغُوتَ} (النحل، 36)، فإن في مقابل اجتناب حاكمية الطاغوت يُطرح الحُكم الإسلامي، ولأن وجود حكومة أمر ضروري من أجل حكم المجتمع وأنّ حكم الطاغوت غير شرعيّ، فإن الخيار الوحيد المتبقي هو حكومة دينية. طبعاً للطواغيت مستويات مختلفة، وتجنّب الطواغيت يمكن تنفيذه بطرق مختلفة حسبَ ظروف ومستوى قوة الجناح التوحيدي. يمكن تفسير مفاهيم مثل الهجرة والجهاد والثورة في هذا السياق، ويجب على كل مسلم أن يعمل في هذا الطريق بقدر استطاعته.
على أساس ما تحدّثنا به حتى الآن، فإن الترابط بين التوحيد ومسألة السلطة الحاكمة التي تحكم المجتمع واضح تماماً. من ناحية أخرى، يُشير مفهوم "السياسة" بشكل أساسي إلى قضية السلطة الحاكمة وكيفية حكم المجتمع وإدارته. وعليه فإن التوحيد الذي هو أساس الإسلام له ترابط مباشر بقضية السياسة. وقد أكد الإمام الخامنئي على هذه المسألة في أنحاء مختلفة منها: «الإسلام هو دين التوحيد، والتوحيد يعني تحرّر الإنسان من العبوديّة والطاعة والتّسليم لأيّ شيء ولأيّ أحدٍ سوى الله، وفكّ القيود عن أنظمة الهيمنة البشريّة، وكسر طلسم الخوف من القِوى الشيطانيّة والماديّة، والاتّكاء على الاقتدارات اللامتناهية التي وضعها الله في ذات الإنسان وطلب منه استخدامها كفريضة لا انفكاك عنها، والوثوق بالوعد الإلهي في انتصار المُستضعفين على الظالمين والمستكبرين شريطة القيام والكفاح والاستقامة» .
لذلك، فإن كلّ ما هو مظهر معرفة الله والتوحيد الإسلامي والقرآني - مع الالتفات إلى أنّ معرفة الله أساسُ الدين - فهو أيضاً مظهر لعينية السياسة والدين، ومن أبرز مظاهر التوحيد هو الحج الإبراهيمي. تعود المناسك الرئيسية للحج إلى الأحداث المتعلقة بنبوة إبراهيم (ع)، وفي القرآن الكريم لم يلوّث إبراهيم (ع) نفسه بالشرك وسيطرة المشركين، بل كان يسعى أيضاً إلى تخليص الناس من الشرك وعبادة الأصنام والقضاء على الحكم غير الشرعي للنمرود.
حقاً، إذا كانت المُحاجّة التوحيدية لإبراهيم مع النمرود وكفاحه ضد الجهل المسمى عبادة الأصنام من أجل التطبيع مع سلطة النمرود والنماردة فكيف يمكن تبرير إشعال النيران من قبل النماردة ضد إبراهيم؟ وهل يُعتبر هذا الفعل لإبراهيم (ع) سوى السعي من أجل تحويل المجتمع ونظام الطاغوت المشرك إلى نظام منبثق من التوحيد، وهو من أبرز الأعمال السياسية.
العلاقة بين موضوع الحج والسياسة وتبيين هذه العلاقة على أساس التوحيد من كلام الإمام الخامنئي هي كما يلي: «الحجّ هو مركز المعارف الإسلاميّة والمبيّن لسياسة الإسلام العامّة في إدارة حياة الإنسان. الحجّ مظهر التوحيد، ورفض الشيطان ورميه، وتكرار لشعار إبراهيم (ع) الذي قال إنّي بريء من المشركين. هو مشهد الاتّحاد العظيم للأمّة الإسلاميّة حول محور التوحيد والبراءة من المشركين ورفض كلّ الأصنام ونفيهم. والصنم هو كلّ شيء يأخذ مكان الله، ويستبدل ولايته بالولاية الإلهيّة، ويجعل طاقات أفراد البشر وإرادتهم في تصرّفه، سواءً أكان حجراً أم خشباً، أم قوى شيطانيّة مهيمنة ومتجبّرة، أم عصبيّات جاهليّة غير محقّة؛ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (يونس، 32). الحجّ الإبراهيمي هو ذاك الذي يكون فيه التوجّه إلى الله والالتجاء إلى حاكميّته وقدرته مترافقاً مع الإعراض عن حاكميّة الطواغيت والجبّارين» .
وما يميّز الحج عن غيره من الشعائر العبادية عند المسلمين هو موضوع الاجتماع العظيم الذي يحدث في الحج، وهذه المسألة كما ذكرنا في البداية مهمة أيضاً. إن الاجتماع العظيم للمسلمين واتحادهم حول المحور المشترك للتوحيد هو في حد ذاته مصدر قوة وعظمة المسلمين. ويؤكد الإمام الخامنئي في كلامه حول موضوع الحج على هذه النقطة أيضاً: «فمن الّذي يلاحظ التوحيد في الحج، وهو شعار المعنويّة والوحدة بين المسلمين، ثمّ لا يفهم أنّ هذا الاجتماع العظيم هو من أجل إظهار الإسلام والتوحيد في وجه الكفر وبعكس ما يريده الأعداء اليوم؟ ففي الحج، يتصدّى التوحيد للشرك» .
«الحج مظهر حضور لعظمة الأمة الإسلامية، والحج مظهر الوحدة، والحج الاتحاد، والحج مظهر قوة للأمة الإسلامية. أكبر اجتماع للأمة يحدث كل عام، دون انقطاع، مع ظروف وأحوال معينة، وفي نقطة معينة. أي تستعرض الأمة الإسلامية قوامها بالحج، وتُظهر نفسها» .
وكما هو واضح، فإن القوة الحاصلة من الوحدة والاجتماع تعتبر مسألة سياسية: «ما نحتاجه في الحج من الشؤون السياسية هو العين في تعاليم الإسلام. تحقيق الوحدة شأن سياسي وهو أمر الإسلام وهو عبادة؛ {وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا} (آل عمران، 103)» .
وبناء على ذلك، فإن الحج يتشابك مع السياسة من حيث المضمون والشكل. يشير محتواه التوحيدي إلى إنكار الطاغوت وضرورة اتباع الحكم الإلهي، كما أن شكله يسبب قوة سياسية من حيث اجتماع ووحدة المسلمين. وبالطبع إذا كان تأثير هذا الاتحاد والاجتماع مصحوباً بمعرفة الحقيقة السياسية للتوحيد؛ فسيكون له أثر مضاعف في عزة واقتدار المسلمين.
المصدر ؛KHAMENEI.IR
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال