الدولة ونظرية ولاية الفقيه في فكر الإمام الخميني (قدس) 28

الدولة ونظرية ولاية الفقيه في فكر الإمام الخميني (قدس)

شكل الفقه والفكر السياسيان جزءاً مهماً من التراث الفقهي والفكري الذي تركه علماء المسلمين عبر العصور، حيث كان الفقه السياسي الإسلامي يشكل هماً إسلامياً عاماً قبيل دخول الاستعمار والانتداب إلى البلدان الإسلامية، لكن بعد ذلك أخذ الاهتمام بالجانب السياسي الصعود تارةً والهبوط أخرى نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت في حينها.
خاصةً نتيجة تسلط الحكام ومحاربتهم للعلماء، فضلاً عن الاستئثار بالسلطة ومحاولة إبعاد أي معارضة عن الحكم، وقد أخذت معظم الدول تبتعد عن الإسلام، ومنها إيران في عصر الشاهنشاهية، إلى أن بزغت شمس الإمام الخميني “قدس”، في ظل انتشار الأفكار الغربية، فضلاً عن انتشار شبهات دينية كان لها وقعها على المجتمعات الإسلامية وخاصةً لدى فئة الشباب، ناهيك عن التأثر السياسي بالإستعمار والتنازل عن القضايا المحقة، ومن ثم محاولة طمس كل ما يمت للإسلام بصلة.

أولاً: في فكر الإمام

في ذلك الوقت كان ظهور الإمام الخميني وانتقاله من أراك إلى قم ـ مع مؤسس الحوزة العلمية آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري “رض” ـ له وقعه الكبير في مناهضة السلطات الحاكمة، والسعي إلى تثبيت أركان ودعائم الإسلام في إيران، منطلقاً من فكر سياسي إسلامي أصيل منبعه القرآن الكريم الذي يؤكد على أن الحاكمية لله، مدعماً برسالة الإسلام النبوي وسيرة الائمة الأطهار، لينطلق مع كتابه الأول “كشف الأسرار” للرد على الشبهات ومن ثم التحضير لأطروحته الفكرية الفقهية للدولة والحكم المبنية على مبحث ولاية الفقيه، حيث رأى ما لم يره غيره في ذلك الوقت نتيجة الدعاية التي شنها الاستعمار لمحاربة الإسلام وإبعاده عن الحكم.

كان الإمام الخميني (قدس) ينظر إلى الحكومة والدولة من عين الوعي الإسلامي القائم على تشكيل الرسول صلى الله عليه وآله لأول دولة في الإسلام، ومن ثم تلازم السلطتين التشريعية والتنفيذية، ودور الفقيه العادل الجامع للشرائط بعد غياب الإمام. فنظرية الدولة في الإسلام تمثل جانباً مهماً من عظمة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية التي تمتلك أغنى الكنوز القانونية في تشكيل الدولة والنظم السياسية.

نتيجة دعاية الاستعمار تحولت اعتقادات الناس في ذلك الزمان إلى اعتبار أن الإسلام دين عبادات فقط، ولا علاقة له بالسياسة والاقتصاد وشؤون المجتمعات. وقد سعى الغرب المستعمر دائماً إلى ترويج مفهوم فصل الدين عن السياسة، على أساس أنّ الإسلام لا شأن له بالحكم أو الحكومة، وأنّه ينحصر في أحكام العبادات، وغير ذلك من الشؤون الفردية في علاقة الإنسان مع ربّه. وقد قال الإمام الخميني “قدس” في كتابه “الحكومة الإسلامية” في هذا الصدد: “كانوا يشِيعون أنّ الإسلام ليس ديناً جامعاً، فهو ليس دين حياة، وليس فيه أنظمة وقوانين للمجتمع، ولم يأت بنظام وقوانين للحكم.. ومن الواضح أنّ هذه الدعايات جزءٌ من مخطّط المستعمرين لإبعاد المسلمين عن السياسة وأساس الحكومة”.

لقد وضع المستعمرون خططاً وبرامج ضمن مشروعهم لإحكام السيطرة على بلادنا الإسلامية، من أجل إخراج الإسلام الحقيقي من حياة المسلمين. وقد ساهم ذلك في تغرّب الأمّة عن ثقافتها، ومن ضمنها ولاية الفقيه، وسبب موقف المستعمرين من الإسلام ودعايتهم ضدّه، هو ما يشكله من مانعٍ دون الوصول إلى غاياتهم، إلى أن أتى الإمام الخميني ليثبت أن التنظيم السياسي لدولة الإسلام وآدابها في التعامل مع الأفراد والجماعات والدول، والمؤسس على مبادئ الشريعة السمحاء هي أكثر ما نحتاج إليه في زماننا الحاضر.

ثانياً: ولاية الفقيه تقود الحكومة

تتفق نظرية الدولة في الإسلام مع نظرة الفقه الدستوري لجهة قيام أركان الدولة من الشعب والإقليم والسلطة والسيادة، مع الاحتفاظ بالمفهوم الإسلامي لكل ركن من هذه الأركان، والذي له مفهومه الخاص من ناحية تملك الأرض أو أن المسلمين مرتبطون عقائدياً فهم أمة واحدة، وأن السيادة في الإسلام قائمة على حاكمية الله والتي تكفل المساواة بين الناس وأن يتم التعامل معهم بعدل وإخراجهم من الظلم والظلمات. وما يميز هذه الأركان في الإسلام هو ركن الشريعة أو العمل وفق القانون الإسلامي.

لكن نتيجة الدعاية الخارجية والتبعية للغرب بدأ الابتعاد عن الفقهاء، واليوم نرى أنه دائماً ما تحاول جهات سياسية ووسائل إعلامية تشويه النظرية الإسلامية القائمة على ولاية الفقيه في الحكم، علماً أن هؤلاء لم يطلعوا على نظرية الإمام الخميني وكتابات علماء متقدمين ومتأخرين لمعرفة هذه النظرية الإسلامية التي تؤسس لبناء مجتمع إسلامي متكامل. وهنا أشير إلى أنه مع قيام الجمهورية الإسلامية المباركة، دخلت مسألة ولاية الفقيه في القانون الأساسي للدولة في تطور تاريخي جديد لهذه المسألة، وقد أحصي ستة عشر مورداً في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران تتناول موضوع ولاية الفقيه.

ورد في مقدمة الدستور الايراني اعتبار القيادة بيد الفقيه، وأنه ضمانة عدم الانحراف للأجهزة المختلفة في نظام الجمهورية ووظائفها الأصلية.

كما ورد في المادة الخامسة: في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر الشجاع القادر على الإدارة والتدبير.

يقول الإمام الخميني “قدس”: “ولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها والتصديق بها، فهي لا تحتاج لأية برهنة، وذلك بمعنى أنَّ كلَّ من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية ـ ولو إجمالاً ـ وبمجرد أن يصل الى ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدق بها فوراً وسيجدها ضرورة وبديهية”. (روح الله الموسوي الخميني ـ الحكومة الإسلامية ـ ص 17).

وتتجلى فرادة نظرية السلطة والدولة عند الإمام الخميني “قدس”. في كونها إطاراً تكليفياً شاملاً، تتحول فيه مكونات المجتمع الإسلامي (أفراد، مؤسسات، قيادة) إلى حركة مقصدية عامة باتجاه تحقيق السعادة الدنيوية والخلاص الأخروي استناداً إلى العمل بتعاليم الوحي والامتثال لأحكام الإسلام وقوانينه.

من هنا، تتداخل معطيات ومحددات عديدة في تشكيل مفهوم الدولة عند الإمام الخميني “قدس” على نحوٍ لا يؤدي إلى تجاوز وإلغاء البعد السياسي المباشر، بل يربطه بأبعاد أخرى مستمدة من شمولية دور الإسلام في حياة الناس، بدءاً من الجانب العقائدي بما هو موجه للسلوكيات الفردية والمجتمعية (تصديق وإيمان) مروراً بالجانب التشريعي وما يتكفل به من ضبط لحركة المجتمع والدولة على إيقاع الموازين الشرعية (الامتثال والالتزام) وصولاً إلى المقاصد الأساسية للدين وتحقق مستلزمات الإيمان (السعادة في الدارين)… يقول الإمام “قدس”: “الإسلام والحكومة الإسلامية ظاهرة إلهية يؤمِّن العمل بها سعادة أبنائها في الدنيا والآخرة بأفضل وجه” (الوصية الخالدة، مكتب وكلاء الإمام الخميني، ص21).

ويشير الإمام إلى عدة خصائص مقصدية تمتاز بها “الحكومة الإسلامية” عن غيرها، من الأنظمة، وهي (العدالة وعدم الاستبداد، التشريع الإلهي، القانون: يعتقد الإمام أن الحاكمية في الدولة الإسلامية تنحصر بالله والقانون الذي هو أمر الله وحكمه…والجميع في هذه الدولة يخضع للقانون بدءاً من الرسول الأكرم مروراً بخلفائه وصولاً إلى سائر الناس وإلى الأبد). “الحكومة الإسلامية، ص71”.

يمكن القول إن الإمام الخميني قد أكد كثيراً على أسلمة نظام الحكم بكل أبعاده، إذ الأسلمة تعكس الميزة الأساسية التي تميز الدولة الإسلامية عن غيرها، بدءاً من بنية الدولة ونظام الحكم والحكومة والسلطات الإجرائية والتشريعية، مروراً بالقوانين والمعارف والثقافات وصولاً إلى المجتمع والمؤسسات والأفراد.

اليوم وبعد 42 عاماً على انبلاج فجر الثورة الاسلامية نجد ان نظام الجمهورية الاسلامية ما زال مستمراً في العمل لتحقيق هذه الأهداف وجعل الإسلام يقود الحكم على مختلف الصعد تأكيداً على عصريته، ومواكبته لكل مفصل من مفاصل النظام المتمثل بولاية الفقيه، وتقديم المباني الفقهية ـ السياسية للحكم تعزيزاً لأطروحة الإمام المقدس وتقديماً لتجربة متجددة ومستمرة للحكم تحت شعار لا شرقية ولا غربية.

بقلم: د. علي مطر

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال