الرّسالة الأخيرة إلى الشهيدة “شيرين أبو عاقلة” 208

الرّسالة الأخيرة إلى الشهيدة “شيرين أبو عاقلة”

شيرين سبقتنا، نحن زملاؤها وبنات وأبناء جِلدتها إلى الشّهادة، ونالت هذا الشّرف باستِحقاق، ولكنّنا نعاهدها أننا لن نركع، ولن نصمت.ربّما هذه هي المرّة الأولى في التاريخ التي يعتدي فيها مِئات الجنود المدجَّجين بالسّلاح، وينتمون إلى جيش يقول أصحابه إنه لا يقهَر، مشيعين عزل يحملون نعشاً، ولِمَن؟ لصحافية جرى إعدامها بدَمٍ بارد، وبطَريقةٍ متَعمّدة، وبرصاصةٍ متفجّرة محرّمة، لأنها كانت تمارس عملها المشروع في نقل الحقيقة إلى مشاهدي قناتها. 

لم يكتفوا باغتيال شيرين أبو عاقلة، بل اعتَدوا بالضّرب بكعوبِ بنادقهم على الذين يحملون نعشها، فلماذا هذا الحِقد والإجرام الهمجي، وهل هو من شيم الأقوياء؟ هل هؤلاء من صِنف البشر الذين يمكن التّعايش معهم؟ وتوقيع اتّفاقات سلام مع حكومتهم؟

 يقتحمون منزل الشّهيدة، وينزلون الأعلام الفِلسطينية من واجهته بالقوّة، ويمنعون أهلها من بثّ الأغاني الوطنية، فهل رفع العلم الفِلسطيني جريمة، وهل بث الموسيقى والأغاني الوطنية خروجٌ عن القانون، وأي قانون؟ هل ضرب المشيعين العزّل بطولة؟

 كانوا أبطالاً وشجعاناً هؤلاء المشيعين والمشيعات الذين حافظوا على كرامة الشّهيدة، وجثمانها الطّاهر، عندما تشبّتوا بالتابوت، وحرصوا على عدم سقوطه، وإنزلاقه، وحالوا دون ارتطامه بالأرض إجلالاً واحتِراماً وحِرصاً على صاحبته، رغم الضّرب الشّرس وآلامِه، فهل هذه العزيمة الجبّارة يمكن هزيمتها؟ لا.. والله.

 أمريكا منزعجة، وأنتوني بلينكن يدّعي الغضب، ورئيسه جو بايدن يقول إنه لا يعرف التّفاصيل، وفرنسا مستاءة من العنف الذي مارسته القوّات الإسرائيلية التي اقتحمت مستشفى يحمل اسمها، بينما لم يصدر عن وزيرة الخارجية البريطانية ورئيسها بوريس جونسون حتى الآن أي إدانة، وكأنّ الأمر لا يعنيهم وهم الذين لعبت بلادهم الدّور الأكبر في نكبة الشّعب الفِلسطيني التي حلت ذِكراها يوم الأحد.

 إنّه الكذب في أبشع أشكاله، والعنصرية في أقبَح صورها، والنّفاق الفاضح لدول تدّعي أنها تؤمن بقيم العدالة والمساواة وحرية التعبير، وترفع راية محاربة الإرهاب والتطرّف بأشكاله كافّة، وقيادة العالم الحر، فهل هناك إرهاب أكبر وأوضح من هذا الإرهاب الإسرائيلي؟

 47 صحافياً جرى اغتيالهم برصاص الجيش الإسرائيلي في وضح النّهار، ولم نسمع إدانة واحدة رسمية للقتلة وحكومتهم، أو فرض أي عقوبات على دولة الاحتِلال، لأنّها “دولة” فوق القانون، ومحمية من قِبَل أمريكا العظمى وحِلف الناتو اللّذين لا يقتلون إلا العرب والمسلمين.

 لا يهمّنا أن تكون الشّهيدة شيرين أبو عاقلة مسيحية أو مسلمة، كاثوليكية أو أرثوذكسية، هي بالنّسبة إلينا ابنة أرض الرباط، عربية فِلسطينية قرّرت أن تقف في خندق المقاومة، وسِلاحها المهنية والتّفاني في نقل الحقائق على الأرض دون رتوش، فالصّورة لا تكذب، ولا تحتاج إلى تجميل، ولهذا دخلت جميع البيوت دون أن تطرق أبوابها.

 فلسطين كانت، وستظل عابرةً للأديان، والطّوائف، والعِرقيات، لأنّها قضية حق وعدالة، وأقسم بالله أنني لم أعرِف أن شيرين مسيحية الدّيانة إلا بعد الصّلاة على جثمانها الطّاهر في الكنيسة، وأنا زميل مهنتها، وأتابعها وتغطياتها لأكثر من ربع قرن، وتحادثنا هاتفياً أكثر من مرّة، وهذا المشهد نفسه تكرّر معي قبل ثلاثين عاماً عندما استشهد صديقي نعيم خضر برصاص إسرائيلي غادر في مقرّ عمله كممثّل لمنظّمة التحرير الفِلسطينية في بروكسل.

 في جنين عاصمة المقاومة، وحاضِنتها، استشهدت شيرين أبو عاقلة، لتشعل باستِشهادها فتيل المقاومة المسلّحة الثانية، ومن المؤكد أن أبناء هذه المدينة ومخيمها وكل أبناء الشعب الفِلسطيني سيثأرون لمقتلها كلٌ بطريقته، مثلما ثأر زملاؤهم للشهيد يحيى عياش عام 1995، بأكثر من أربع عمليات استشهادية هزّت الكيان العنصري ومستوطنيه، وعزلته عن العالم بأسْره.

 اسمحوا لي أن أختم القول، وللمرّة الثانية، إنّه كلّما كبرَت الشّهادة كبر مفعولها، وقد يأتي الخير من باطِن الشّر، وشيرين أبو عاقلة كانت كبيرة بأخلاقها، وإرثها الصّحافي المقاوم العظيم، ولهذا ستكون شهادتها علامةً فارقةً في تاريخ شعبها، ونقطة تحوّل في مقاومته.

 نعم نجحوا بكتم صوتها، ولكنّ فِلسطين ولّادة، وتلميذاتها، وتلاميذها، الذين علّمتهم أخلاق المهنة وقيمها، وآدابها، وكيفية الانتِصار للعدالة سيحملون الرّاية من بعدها، ويواصلون المسيرة بكلّ عزيمةٍ وإصرار.

 لا نريد تحقيقات دولية، ولا إدانات، ولا محكمة جنايات دولية، وسنعتمد على أنفسنا ومقاومتنا، وأذرع سيداتنا ورجالنا، وأشبالنا، لقد جرّبناكم ولم نر منكم غير الخِداع والخذلان، والوقوف إلى جانب قتلتنا وبِتنا نعرف أن الأسلوب الوحيد للتّعاطي معكم ومع عدوّنا هو المقاومة، وها هو شعبنا يعود إليها بقوّةٍ بعد 30 عاماً من السّلام المَسموم.

 شيرين سبقتنا، نحن زملاؤها وبنات وأبناء جِلدتها إلى الشّهادة، ونالت هذا الشّرف باستِحقاق، ولكنّنا نعاهدها أننا لن نركع، ولن نصمت، وسنظل واقفين في خندق العزّة والكرامة، فهذا العَدوّ المرتعد الجبَان يخاف من الكلمة مِثل خوفه من الفأس والرّصاصة، إن لم يكن أكثر، ونحمد الله أن شعبنا يملك الاثنين، وفوقهما الشّجاعة والإيمان والصّمود، ولهذا سينتصر بإذن الله.. والأيام بيننا.

 

بقلم: عبد الباري عطوان

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال