السّلام في اليمن في ضوء تغيير قواعد الإشتباك 18

السّلام في اليمن في ضوء تغيير قواعد الإشتباك

قرار استئناف صادرات السلاح الأميركي للنظام السعودي سبقه إعطاء واشنطن الضوء الأخضر لتحالف عدوان الرياض بالتصعيد العسكري ضد صنعاء.
دخلت معركة صنعاء مع تحالف العدوان مرحلة جديدة من التصعيد المتبادل مع تغيير في قواعد الاشتباك التي بدأت تتجلى من خلال نقض الرئيس الأميركي جو بايدن تعهداته بإنهاء الدعم الأميركي للحملة العسكرية السعودية على اليمن، مع تصعيد تحالف العدوان وتيرة غاراته الجوية على المدن اليمنية، وفي مقدمتها صنعاء، التي تواجه التصعيد بتصعيد أكبر تفرض فيه قواعد اشتباك جديدة، تشمل توسيع جغرافيا بنك الأهداف العسكرية والحيوية في عمق دول العدوان، وهو ما أظهرته العملية العسكرية النوعية لقوات صنعاء المسمّاة “عملية السابع من ديسمبر”، والتي طالت جملة من الأهداف الحسّاسة على امتداد الرقعة الجغرافية للسعودية.

كما تُعاود منظومة الدفاع الجوي المطوّرة لصنعاء حضورها بفاعلية أكبر، ولا سيما في معركة استعادة مأرب التي دخلت مرحلة الرمق الأخير لتحالف العدوان، إضافةً إلى الانتصارات العسكرية الكبيرة لصنعاء في الساحل الغربي، المتمثلة بالانسحابات المفاجئة التي نفذتها قوات المرتزقة المدعومة إماراتياً.

التغيير الحاصل في قواعد الاشتباك يقود إلى إحداث تغيير في قواعد اللعبة السياسية، فحالة التشظي المتزايد لتحالف العدوان وأدواته المحلية، وما تشهده المنطقة من تغييرات ديناميكية، نتيجة الفراغ السياسي الناجم عن تراجع الدور الأميركي فيها، إضافةً إلى الانتصارات المتعاظمة لمحور المقاومة، يدفع الخصوم في المنطقة إلى ترميم العلاقات بينهم كخيار أفضل. وفي المحصلة، تُشكل هذه المعطيات عوامل تُعزز حضور صنعاء على مستوى الداخل والمنطقة.

لم تعُد الولايات المتحدة حليفاً موثوقاً به لدى دول الخليج الفارسي، فاستراتيجيتها الجديدة تقوم على خفض مستوى تواجدها العسكري في المنطقة. وما يعزز هذا التوجه قيامها بسحب عدد من بطاريات صواريخ الباتريوت من دول المنطقة، بما فيها السعودية “الحليف التاريخي”.

إضافةً إلى ذلك، تعهّد الرئيس الأميركي بايدن سابقاً بإنهاء الدعم للحملة العسكرية السعودية على اليمن. أمام هذه المعطيات، حاولت الرياض استعادة انتباه واشنطن، من خلال تلويحها بإمكانية تنويع حلفائها والتوجّه نحو الصين وروسيا، وهو ما يشكل تحدياً للاستراتيجية الأميركية القائمة على التوجه نحو مواجهة هاتين الدولتين. لذا، تسعى واشنطن لإعادة ضبط علاقاتها مع الرياض، بما يضمن تعطيل تقاربها مع بكين وموسكو.

لذا، إنّ التحوّل السريع في السياسة الأميركية تجاه الحرب العدوانية التي تقودها السعودية على اليمن هو تحول براغماتي مدروس، وإن كان يكشف خداع الرئيس بايدن وتعهداته التي لم تستمر سوى بضعة أشهر، ليتضح أنها مجرد شعارات اقتضتها الحملة الدعائية الانتخابية للفوز بالرئاسة.

لذلك، إن توجه إدارة بايدن نحو تزويد السعودية بالسلاح الذي يقتل المدنيين في اليمن لا يختلف عن توجه إدارة سلفه دونالد ترامب الذي دافع بشكل صريح عن صفقات السلاح مع السعودية، معتبراً أن إيقافها يضرّ بالشركات والاقتصاد الأميركي، ويوفر فرصة لروسيا والصين، فيما يحاول بايدن وإدارته تضليل الرأي العام الأميركي، من خلال الترويج بأن عدم تزويد السعودية بالسلاح يقوض تعهدات الرئيس الأميركي بالدفاع عن السعودية وحماية أمنها.

من هنا، تدعم واشنطن موافقتها على صفقة السلاح الحالية للسعودية التي تبلغ قيمتها 650 مليون دولار بتسريبات إعلامية حول تراجع مخزون الصواريخ الاعتراضية للسعودية، نتيجة ما تسميه تعرضها لعمليات هجومية متزايدة تستهدف ما تقول إنهم مدنيون، إضافة إلى إثارتها مخاوف المجتمع الدولي من مخاطر ارتفاع أسعار النفط، جراء تعرض منشآت النفط السعودية للهجمات، وإعلانها في هذا التوقيت ما أسمته مصادرتها شحنات أسلحة إيرانية كانت متجهة إلى “أنصار الله” في العامين 2019 و2020، في محاولة لكسب التأييد الدولي للمبررات التي تسوقها دفاعاً عن الرياض، وإظهارها صنعاء بمظهر المعرقل لجهود السلام.

الوجه القبيح لواشنطن يبدو اليوم أكثر قُبحاً، فبدلاً من التوجه نحو دعم جهود السلام في اليمن، كأقصر الطرق لإحلال الأمن والاستقرار في المنطقة، تتجه واشنطن نحو إطالة أمد العدوان والحصار، من خلال إبرام المزيد من صفقات السلاح مع الرياض، والتي تشمل أسلحة هجومية وقطع غيار ودعماً فنياً، الأمر الذي يؤكد زيف دعواتها للسلام في اليمن والتباكي باسم المعاناة الإنسانية التي تُكرسها بالعدوان والحصار، لتظل المصالح الأميركية تعلو على المبادئ والأخلاق الإنسانية، من دون اكتراث لما سيحدثه السلاح الذي تزود به الرياض من جرائم وانتهاكات جديدة في اليمن، ولا سيما بعد أن نجح لوبي الرياض بإنهاء ولاية فريق الخبراء البارزين التابع للأمم المتحدة الذي كان بمثابة منصة دولية مهمة معنية بالكشف والتحقيق في الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت في اليمن من قبل تحالف العدوان ومرتزقته.

قرار استئناف صادرات السلاح الأميركي للنظام السعودي سبقه إعطاء واشنطن الضوء الأخضر لتحالف عدوان الرياض بالتصعيد العسكري ضد صنعاء، بعد فشل الضغوط السياسية لمنع قواتها من استكمال استعادة ما تبقى من مدينة مأرب، إضافة إلى فشل محاولات فرض رؤى منقوصة للسلام على صنعاء ووفدها المفاوض في مسقط، المتمسك بسقف مشروع من المطالب لإحلال السلام العادل والشامل الذي ينعم به اليمن وجيرانه في المنطقة، يبدأ بفصل المسار الإنساني عن السياسي كمدخل لبناء إجراءات الثقة بين الأطراف المعنية، وهو ما يقتضي إنهاء العدوان والحصار، ومن ثم توفير أرضية مشتركة للمفاوضات، تقوم على تجاوز التحديات التي تقف أمام السلام والتسوية، كالقرار الأممي 2216 وما يسمى بالمرجعيات الثلاث، مع ضمان إنهاء تواجد القوات الأجنبية، وتحمل دول التحالف مسؤولية جرائمها التي ارتكبتها، إضافة إلى التزامها بدفع التعويضات وجبر الضرر وإعادة الإعمار.

الفشل السياسي لتحالف العدوان يمتدّ ليشمل رفض دعوات مبعوث واشنطن إلى اليمن تيموثي ليندركينج لإعادة توحيد صفوف الأطراف اليمنية المثقلة بتداعيات الهزيمة نتيجة مشاركتها في العدوان، إذ لم تجد دعوات ليندركينج آذاناً صاغية لدى تلك الأطراف التي أضحت تُقرّ علانية بسقوط الرهانات والوعود المتبادلة بينها وبين قيادة التحالف، وكانت على مدار سنوات العدوان أشبه بكبش أحمق يقبل ناب ذئب.

لذا، لا غرابة في أن نرى اليوم العديد من قيادات ما يسمى بالشرعية تنفض يدها عن تحالف العدوان، وتُنادي بالسلام والحوار بين اليمنيين من دون تدخل خارجي، كما بدأت بعض تلك القيادات بالتواصل مع صنعاء التي ترحب وتتعاطي بإيجابية مع مثل هذه المواقف الجيدة، وإن كان يغلب عليها الانتهازية، وتبدو كالقفز المظلي من طائرة تحترق، كما قد يعتبرها البعض عودةً لما تبقى من ضمائر لدى تلك القيادات.

لا شك في أنَّ تصعيد تحالف العدوان ضد صنعاء يؤكد أنَّ الرياض لا تزال متأرجحة وغير قادرة على حسم موقفها الذي تتجاذبه المواقف والمتغيرات الإقليمية والدولية، في ظل سياسات ارتجالية يصعب التنبؤ بها لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي حاول خلال جولته الخليجية ترميم العلاقات، واستعادة ثقة ودعم دول الخليج الفارسي التي لم تعُد مستعدة لمسايرته في سياساته التي رفعت مستويات التوتر في المنطقة، وهي ترى أن إنهاء التدخل السعودي في اليمن أولوية لتحقيق الأمن والاستقرار وإعادة الاعتبار إلى الدور السعودي في المنطقة الذي أصبحت تقوم به أبو ظبي، التي تسبق الرياض في التعاطي مع متغيرات المنطقة التي تتطلب الحوار والتقارب، إذ تُبدي تقارباً مع محور المقاومة، فقد استقبلت دمشق وطهران قيادات إماراتية كبيرة.

وفي اليمن، تُظهر أبو ظبي عدم قدرة على تحمّل الضربات الباليستية والمسيّرة. وقد أظهرت تجاوباً مع بعض رسائل صنعاء، من خلال الانسحابات التي نفذها مرتزقتها في الساحل الغربي. ومع ذلك، سيظل محور المقاومة ضد عملية التطبيع التي قامت بها الإمارات وعدد من الدول العربية مع العدو الإسرائيلي، لكون ذلك يعد تفريطاً في القضية الفلسطينية، ولا يخدم أمن المنطقة واستقرارها.

ختاماً، إنّ التغيير القائم في قواعد الاشتباك يزيد مستويات الفشل العسكري والسياسي لتحالف العدوان، كما يزيد التشظّي والانحسار لأدواته اليمنية، ليصبح إنهاء العدوان والحصار خياراً اضطرارياً لا اختيارياً، فيما تحصد صنعاء ثمار الصمود الفريد والتضحيات الجليلة، وفي مقدّمتها دماء الشهداء الزكية التي تنتصر يوماً بعد يوم لقضية عادلة ومظلومية شعب عزيز يتوق إلى السّلام والحرية، في ظلّ دولة كريمة تملك قرارها وسيادتها الكاملة من دون تدخّل أو وصاية.

بقلم: محمد محمد السادة

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال