158
أثار عرض وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة حفيظة ألمانيا حيث انتقد الألمان الوثيقة لاحتوائها على العديد من الاتهامات المعادية لأوروبا.
تتهم الوثيقة أوروبا بالضعف في حرية التعبير والهجرة غير المنضبطة وتراجع الحضارة، ودعت الدول الأوروبية إلى تحمل المزيد من المسؤوليات الدفاعية والأمنية. تعتبر برلين هذا النهج تدخلاً في الشؤون الداخلية لأوروبا وتؤكد أنها لا تحتاج إلى مشورة خارجية.
في الواقع ينبع انتقاد ألمانيا لوثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي من مخاوف بشأن تدخل واشنطن في الشؤون الداخلية لأوروبا، وعدم ثقتها في القوة السياسية والثقافية للقارة، والضغط لزيادة أعبائها الدفاعية. قد يشكل هذا الاختلاف في وجهات النظر تحديات خطيرة لمستقبل العلاقات عبر الأطلسي.[1]
وقد أشعلت شرارة الخلاف بين هذين الحليفين الغربيين فعالية ترامب في ولايته الأولى وإثارته لقضايا الأمن والإنفاق الدفاعي.
في التاريخ الحديث، لا توجد علاقة ثنائية شهدت تقلباتٍ كثيرةً كتلك التي شهدتها العلاقة بين الولايات المتحدة وألمانيا. فقد مرت كغيرها من العلاقات بتحولاتٍ عميقة، من لامبالاةٍ إلى اهتمام باهتٍ وتعقيدٍ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى وعيٍ متزايدٍ وتنافسٍ ثم عداءٍ صريحٍ في أوائل القرن العشرين، إلى نوعٍ من التضامن ثم مواجهةٍ وجوديةٍ مرعبةٍ في منتصف القرن العشرين، وأخيرًا إلى احتلالٍ وإعادة إعمارٍ وصداقةٍ عالميةٍ داعمةٍ ومستقرةٍ بعد عام ١٩٤٥.
ورغم أن المسارات المبكرة للولايات المتحدة وألمانيا أثرت في بعضها البعض وانعكست على بعضها البعض إلا أن البلدين اصطدما في نهاية المطاف في الحرب العالمية الأولى، وهي حربٌ نشأت من قضايا لم تُحل إلا جزئيًا في أعقاب الحرب. وكشف اندلاع الحرب العالمية الثانية عن قصور معاهدة فرساي؛ وهو فشلٌ أدى إلى تدميرٍ كاملٍ وشاملٍ للمجتمع المدني الألماني، ومهّد الطريق لعصرٍ من الهيمنة الأمريكية على العالم الغربي. لقد حددت محاولة الولايات المتحدة الطموحة لإعادة بناء المجتمع الألماني وفقًا للنماذج الأمريكية طبيعة العلاقة بين البلدين في حقبة ما بعد الحرب، إلا أن النزعة القومية في كلا البلدين مطلع القرن الحادي والعشرين أعادت إحياء تساؤلات ومخاوف قديمة.[2]
فالولايات المتحدة لا تسيطر على الاقتصاد العالمي فحسب من خلال هيمنتها على الدولار - الذي يمثل أكثر من 60% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية - بل حوّلت أيضًا دولًا تابعة لها كألمانيا وأوروبا إلى ما يشبه "المستعمرة المالية". ويرى المحلل هارينغ أن هذه الهيمنة متجذرة في نظام بريتون وودز (1944)، حيث تم ترسيخ الدولار كعملة احتياط عالمية، وتستمر حتى اليوم من خلال العقوبات الخارجية (مثل قطع الوصول إلى نظام سويفت) والضغط على البنوك المركزية. ويطلق هارينغ على هذا "الإمبريالية الخفية"، لأنه دون الحاجة إلى احتلال عسكري تطفي واشنطن هيمنتها على سياسات الدول الأخرى.
بعد الحرب العالمية الثانية قدمت الولايات المتحدة الدولار على أنه "منقذ" من خلال خطة مارشال وإعادة إعمار أوروبا، لكن في الواقع أدى ذلك إلى خلق تبعية للدولار. ففي ألمانيا التي كان اقتصادها مُدمّرا كان قبول المساعدات الدولارية بمثابة فتح الباب أمام الشركات الأمريكية والتخلي عن السياسة النقدية لصالح الاحتياطي الفيدرالي.
في الحقيقة "الدولار ليس مجرد عملة بل هو أيضاً سلاح جيوسياسي تستخدمه أمريكا للحفاظ على هيمنتها". وقد اشتدت هذه الهيمنة خلال الحرب الباردة، وتستمر حتى اليوم من خلال أدوات مثل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، الذي يمنع الشركات الأوروبية من التعامل تجارياً مع إيران أو روسيا.
وقد طُرحت ثلاث حجج رئيسية لتبرير هيمنة الدولار الأمريكي وتأثيره على ألمانيا وأوروبا:
١- التبعية المالية: تعتمد ألمانيا بصفتها أكبر مُصدّر في العالم على الولايات المتحدة في أكثر من 10% من صادراتها. وتخضع البنوك الألمانية مثل بنك دويتشه لإشراف مباشر من مجلس الاحتياطيا لفيدرالي، وأي مخالفة تُعرّضها لغرامات بمليارات الدولارات( مثل غرامة 7.2 مليار دولار التي فُرضت على بنك دويتشه)، هذا الاعتماد يُعيق سياسات برلين، فعلى سبيل المثال في قضية نورد ستريم٢ أجبرت الولايات المتحدة ألمانيا على وقف المشروع بالتهديد بفرض عقوبات بالدولار.
٢-العقوبات خارج الحدود الإقليمية: يسمح الدولار للولايات المتحدة بعولمة قوانينها المحلية. وتُعد أوروبا التيتُجري٤٠٪ من تجارتها بالدولار ضحيةً لذلك. على سبيل المثال، في عام ٢٠١٨ خسرت شركات ألمانية مثل سيمنز وفولكس فاجن مليارات الدولارات بسبب تجارتها مع إيران، بينما استفاد منافسوها الصينيون. وهذا في الواقع شكل من أشكال "الاستعمار الجديد" حيث تُصبح أوروبا "مستعمرة لواشنطن".
٣- عدم المساواة العالمية: تُفيد هيمنة الدولار وولستريت، على الاقتصاد الحقيقي. ومن الأمثلة على ذلك أزمة٢٠٠٨، حيث أنقذ الاحتياطيا لفيدرالي العالم بطباعة تريليونات الدولارات لكنه ترك الديون على عاتق الآخرين وأدى ذلك في ألمانيا إلى تضخم المستوردات وضعف اليورو.[3]
في مجال الدفاع والأمن تفاقمت الخلافات بين الحليفين الغربيين أيضًا بسبب تعند ترامب وإثارة قضايا الأمن والإنفاق الدفاعي. يرى بعض المحللين والباحثين في السياسة الدولية أن أصل هذه الخلافات يكمن في قضايا مثل الإنفاق الدفاعي، ومجموعة السبع، وبناء خط أنابيب نورد ستريم 2، والتعريفات الجمركية على السيارات الألمانية، وتفاعل ألمانيا مع الصين وروسيا وإيران، وأخيرا إعلان سحب 9500 جندي أمريكي من ألمانيا.
مع ذلك يتضح من تصريحات المسؤولين الأوروبيين ولا سيما الألمان أن جذور هذه الخلافات وأسباب ظهورها وكشفها تشير إلى تطور وتشكيل تغييرات في النظام الدولي. في الواقع، يكمن الاختلاف الجوهري بين ضفتي المحيط في فهم وتصور النظام العالمي الجديد. فمفهوم التعددية الأوروبية غير وارد حتى لدى الليبراليين الأمريكيين، وينظرون إليه بعين الشك. في السنوات الأخيرة وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سعت الولايات المتحدة إلى منع ألمانيا من تعزيز دورها في الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، وإضعاف هذه المؤسسة الأوروبية بشكل عام. في المقابل تقوم استراتيجية ألمانيا على أساس أنها مع الحفاظ على نموذج التكامل الأوروبي وتعزيزه وتسعى إلى تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة في مختلف المجالات الأمنية والطاقة والسياسية.[4]
ونتيجةً لذلك، فإن دراسة المسار التاريخي للعلاقات بين البلدين والتدخلات الأمريكية في ألمانيا تحت ذرائع مختلفة لم تفد ألمانيا فحسب، بل كلفتها أيضاً خسائر في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهذا الأمر واضح تماماً للألمان. فرغم أن ألمانيا تُعرف كحليف قديم للولايات المتحدة، إلا أنه لا توجد دولة تُضحي بمصالحها من أجل تحالف يُشكل تهديداً.
لذا ولتجنب التدخل الأمريكي يجب على الأوروبيين أولاً إعادة بناء جيوشهم، لأنه بعد عقود من إهمال الجيش والقوات المسلحة لم تكن ألمانيا وحدها بل دول أوروبية أخرى أيضاً قد أصبحت ضعيفة للغاية وتعتمد بشكل كبير على الجيش الأمريكي في دفاعها، مما تسبب في تحديات عديدة في مجالات الاقتصاد والطاقة والأمن في أوروبا. لذلك لا يتعين على ألمانيا وحدها بل وعلى الدول الأوروبية الأخرى أيضاً أن تتصرف بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسات الأمنية حتى تتضاءل تحدياتها الأخرى بمرور الوقت.
حكيمة زعيم باشي
[1] https://parstoday.ir/fa/world-i30268
[2]https://oxfordre.com/americanhistory/display/10.1093/acrefore/9780199329175.001.0001/acrefore-9780199329175-e-731
[3] https://norberthaering.de/en/27-attention-economy/dollar-imperialism
[4] https://www.ipis.ir/portal/newsview/609178
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال