قد لا يبدو مستغربًا فتح الغرب باب التطوع وتجنيد “المرتزقة” للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية، فهو سبق له أن أذاق شعوب منطقة الشرق الأوسط هذه الكأس المُرّة غداة اندلاع “الخريف العربي”، عندما صدّر لها جميع الوحوش والعتاة والارهابيين القابعين في أراضيه، خصوصًا الى سوريا والعراق وأطلق عليهم حينها لقب مقاتلي الحرية، وها هو يعيد الكرة ذاتها (بأهداف مختلفة) لمساندة أوكرانيا ضد روسيا، بعدما كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أعلن عن إنشاء فيلق دولي للمتطوعين، وقال: “سيكون هذا هو الدليل الرئيسي على دعمكم لبلدنا”.
ساهمت الدعاية الغربية والضخ الإعلامي المتزايد ضد روسيا، بجذب “المرتزقة” الأجانب الذين أبدوا استعدادهم للدفاع عن حكومة أوكرانيا، لا سيما مع تراكم صور ما أطلق عليه الغرب “الفظائع الروسية” والتي ثبت أن أغلبها كان مزيفًا وتم تركيبه وتلفيقه، وفقًا لاعترافات رواد غربيين في صناعة الإعلام.
وبناء على ذلك، تشير التقارير إلى أن دعوة زيلينسكي لمدّ كييف بالمقاتلين لقيت استجابة واسعة، حيث يسافر المرتزقة من أماكن قريبة وبعيدة للانضمام، وكثير منهم من الشتات الأوكراني ولكن أيضًا من مناطق أبعد.
ما هي الدول التي أرسلت “مرتزقة” إلى اوكرانيا؟
استنادا لزيلينسكي، تطوع أكثر من 16 ألف أجنبي للقتال في الأسبوع الأول من الصراع. وبعد أيام قليلة فقط، قدر وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا هذا الرقم بما يقارب 20000. ويقدّر دبلوماسيون غربيون، أنه وصل الى اوكرانيا مقاتلون “مرتزقة” من 52 دولة، من بينها الولايات المتحدة وكندا وفنلندا وجورجيا والسويد وجمهورية التشيك وفرنسا وبلجيكا وبيلاروسيا.
المثير في الأمر، أن العديد من قادة الدول الغربية، شجعوا مواطنيهم “المرتزقة” على محاربة بوتين بالوكالة في أوكرانيا. وفي هذا الاطار، أعربت وزيرة خارجية بريطانيا ليز تروس، عن دعمها لقتال البريطانيين في أوكرانيا لأن “أولئك الذين يقاتلون الروس، يقاتلون من أجل الحرية والديمقراطية، ليس فقط من أجل أوكرانيا، ولكن من أجل أوروبا بأكملها”.
وفي سياق متصل، قالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميت فريدريكسن “إنه خيار يمكن لأي شخص أن يتخذه. هذا ينطبق على جميع الأوكرانيين الذين يعيشون هنا، ولكن أيضًا على الآخرين الذين يعتقدون أنه يمكنهم المساهمة بشكل مباشر في الصراع”.
ماذا عن أميركا؟ وكيف تفاعل المحاربون القدامى فيها مع الدعوات للقتال في اوكرانيا؟
في الواقع، يتجمّع هؤلاء المرتزقة، بمعدل أسرع بكثير مما كان عليه الحال في عام 2014 في سوريا والعراق – آخر حلقة رئيسية من تدفق المرتزقة الأجانب ــ واللافت أن معظمهم من المحاربين القدامى الأميركيين ذوي الخبرة القتالية الكبيرة، ومع ذلك هناك العديد من المدنيين يسافرون الى أوكرانيا، رغم افتقادهم للتدريب، والوعي بقوانين الحرب.
في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، تتجمع مجموعات صغيرة من قدامى المحاربين العسكريين وتخطط للحصول على جوازات سفر. بعد سنوات من الخدمة أصبح الكثيرون منهم متعطشين لما يرون أنها “معركة صالحة للدفاع عن الحرية ضد معتدٍ استبدادي بجيش تقليدي وغني بالأهداف.. الكثير منا يراقب ما يحدث ويريد فقط الحصول على بندقية والذهاب إلى هناك” وفق ضابط سابق في الجيش الأميركي.
تتم هذه الاستعدادات للذهاب الى أوكرانيا بشكل سريع جدًا، ويساعد الكثير من الناس في أميركا بتجهيز هؤلاء المرتزقة.
ليس هذا فحسب، فالاعلام الاميركي انخرط جهارًا نهارًا في معركة “التحريض” ومد يد العون للمرتزقة، حيث نشر عدد من وسائل الإعلام الرئيسية بما فيها موقعا Military Times و Time، إرشادات حول كيفية الانضمام إلى الجيش في أوكرانيا خطوة بخطوة، فضلًا عن تعليمات نشرتها الحكومة الأوكرانية للمتطوعين المهتمين بالاتصال بقنصلياتها.
إضافة الى ذلك كان للأجهزة الدبلوماسية الغربية في أوكرانيا، دور في تسهيل عبور المرتزقة، وفي هذا السياق، قال العديد من المحاربين القدامى الذين اتصلوا بالقنصليات الأسبوع الماضي، إنهم ما زالوا ينتظرون الرد.
المثير للسخرية، ان حماسة قدامى المحاربين المرتزقة، نابعة من التجارب المخيبة التي منوا بها خلال قتالهم في بلدان اخرى، لذا فهم يريدون فرصة لتعويض المهام الفاشلة في العراق وأفغانستان.
ماذا عن الشواهد التاريخية لأميركا في تصدير المرتزقة؟
ما يجب معرفته أن مثل هذه الحماسة للمرتزقة الأميركيين، ليست جديدة، فقد قام سابقًا جيش من المرتزقة الأميركيين بنقل السلاح إلى كوبا، وحاربوا الشيوعيين في إفريقيا، وحتى حاولوا إنشاء دولَ “عبيد” جديدة في أمريكا الوسطى. أما اكبر شاهد تاريخي فهو الحرب الأهلية في إسبانيا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ كان انضم أكثر من 3000 أمريكي إلى ما أصبح يعرف باسم كتيبة “لينكولن” للقتال مع الحكومة الاسبانية ضد من وصفتهم واشنطن حينها بـ”القوات الفاشية”، وجرى جمع التبرعات لإرسال الشباب إلى الخارج.
المفارقة أن هذا الجهد الذي غالبًا ما يتم تصويره بشكل رومانسي كمقدمة شجاعة للقتال ضد النازيين، انتهى بشكل سيئ، بعدما شنت ألوية المرتزقة سيئة التدريب والمجهزة، هجومًا كارثيًا على سلسلة من التلال المحصنة في عام 1937 وقتل أو جرح ثلاثة أرباع الرجال، فيما واجه آخرون المجاعة في الأسر، بينما زعيمهم، أستاذ الرياضيات السابق الذي كان مصدر إلهام للبطل في رواية إرنست همنغواي “لمن تقرع الأجراس” تم القبض عليه لاحقًا وعلى الأرجح تم إعدامه.
كيف تنظر روسيا الى هؤلاء المرتزقة؟
تؤكد موسكو أن المقاتلين الأجانب لن يُعتبروا جنودًا، بل مرتزقة، ولن يكونوا محميين بموجب القواعد الإنسانية المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب. اكثر من ذلك، ستقوم بمحاكمتهم كمجرمين في حال وقعوا بالأسر. وفي محاولة لثني هؤلاء المرتزقة، وتحذيرهم من المخاطر التي قد يواجهونها في حال التفكير بالتورط ضد روسيا، دعا الكرملين جميع المواطنين الأجانب الذين قد يكون لديهم خطط للذهاب والقتال من أجل النظام القومي في كييف، الى التفكير مليًا عشرات المرات قبل الانطلاق في الطريق.
في المحصلة، لا تزال العمليات العسكرية في أوكرانيا في ايامها الاولى، ولكن عدد المرتزقة المهتمين بالفعل لدعم أوكرانيا كبير، ولا يستغرق الأمر سوى بضعة أيام حتى يتحركوا للسفر. وإذا صدقت التنبؤات بمعركة طويلة، فقد يستمر التدفق الخارجي في التوسع والتطور.
وعليه يتعين على الدول أن تبدأ الآن في التفكير بالمخاطر التي قد تتعرض لها مع مواطنيها أيضًا، قبل أن يصابوا بالصدمة عند عودة هؤلاء المرتزقة الى أوطانهم، وينقلبوا على أنظمتها التي سهلت خروجهم (كما حصل مع دواعش اوروبا) بعدما تشرّبوا الافكار الإيديولوجية اليمينية المتطرفة التي يتبناها البعض في اوكرانيا، وبالتالي يكون الغرب قد ساهم في انتاج “دواعش جدد” لكن هذه المرة من اوكرانيا.
د. علي دربج
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال