ضمن سياسة المواجهة الاستباقية تخفض روسيا إمداداتها من الغاز إلى أوروبا، والأخيرة تجد نفسها أمام معضلة أشدّ فتكاً من قبل، تلقي بظلالها على الأمور الحياتية، بينما الأوروبيون يتجنّبون السجال الصيني الأميركي، وبين هذا وذاك تعيش أوروبا قلقاً كبيراً بشأن نقص الموارد الطاقية، إضافة إلى تشاور في مقترحات محادثات فيينا النووية، حيث المقاربات التي يأخذها الأطراف المعنيون، بينما ينتاب الديمقراطيون مخاوف وهواجس كبيرة من تقديم التنازلات، فما موقف القارة العجوز من الترويكا الأوروبية إزاء ما نص عليه الاتفاق على الطاولة؟
وفق ما تسلكه الحسابات التي ينطلق منها الأطراف وتحديداً حسابات إدارة بايدن، وما هي أولوياته الاستراتيجية في ما يتعلق بمصالح السياسة الأميركية بالمفاوضات النووية وحاجة الأوروبيين لها؟
على ما يبدو أنّ المفاوضات هذه المرة تختلف عن سابقاتها، إذ تتجه نحو التسوية بالرغم من الموقف الأميركي الذي وضع مصالحه أولاً قبل مصالح أوروبا، في حساباته الأخيرة، ربما هذا اللين في التصرفات السياسية الأميركية ناتج عن حاجة أوروبا للاتفاق بعد أن قامت الولايات بأذيتها وانكشفت لعبتها، ولكن يبقى السبب الرئيسي متعلقاً بالانتخابات النصفية التي ينتظرها بايدن على أحرّ من الجمر، متباهياً بإنجازاته الفاشلة سياسياً وميدانياً أمام المجتمع الأوروبي الذي لحق به الضرر إزاء فرض عقوباته على روسيا بهدف تدمير قوتها، فارتدّت ضرباته المؤذية إلى الداخل الاميركي والأوروبي، فعودته للاتفاق النووي مع إيران لها خصوصية سياسية تتعلق بشعبيته التي تدنت إلى نحو ثلاثين بالمئة، لا سيما العامل الاقتصادي وتضخم الأسعار، وهي عوامل أساسية بالنسبة لخيارات الناخب الأميركي، الذي يأخذ قراره السياسي من خلال تقييم وضعه المعيشي الذي يؤثر على حياتهم، لا سيما هنا مستوى الاقتصاد بالحضيض، وبالتالي تسعى اليوم إدارة بايدن الى مخرج يسعفها بحلول ناجعة قبيل الانتخابات لمساعدة العامل الأميركي بالدرجة الأولى، بتحقيق أهداف تساعده على خفض الأسعار أولاً تزامناً مع وقف التضخم، وهذا ما يعتبره الراعي الأول لإنقاذ نفسه مقاربة بالمصالح الأميركية، لذا كان الاتفاق النووي بين رغبة الحاجة الأوروبية على ضوء وقع السياسة الأميركية لتسجيل نقاط على الحزب الجمهوري، مقابل ذلك الأزمات التي تعيشها أوروبا من أزمات حادة بتأمين الطاقة والغاز وهو الشغل الشاغل الآن للقادة الاوروبيين، إذ أنّ المانيا ذكرت حكومتها بأنّ البلاد أمامها أشهر صعبة لمواجهة نقص الإمدادات بالغاز، وبالتالي يجب على الولايات المتحدة أن تلتزم بالخيارات المتاحة، وأن تتراجع عن العقوبات المفروضة على روسيا، بما أنّ الأمن الطاقي الأوروبي في خطر، وإلا ربما ستشهد أوروبا ارتفاعاً جنونياً وبشكل هيستري في الأسعار والتضخم، وهذا ليس من مصلحة ألمانيا التي تعتمد وبشكل كبير على إمدادات الغاز الروسي، كما أنها تبحث عن خيارات أخرى لترفع من إنتاج الطاقة المتجددة وهذا يحتاج الى وقت طويل، ولا يُعتقد أنّ ألمانيا تملك الوقت الكافي لذلك…
أما في ما يتعلق بالأوروبيين فإنّ عليهم أخذ البرنامج العملي الشامل المشترك مع ايران، في حال أخذوا العبر من الأزمة الأوكرانية، ومن أجل إحياء هذا الاتفاق تقوم أوروبا بدعمه متخطية ضغوطات الولايات المتحدة القسرية التي ربما ستساعدها إيران من خلال مصدر إمدادات النفط والغاز لها، في حال ساعد الأوروبيون أنفسهم، وهذا قد يصبّ في المصلحة العالمية، وانطلاقاً من دفع الثمن الذي يطاردهم بدأنا نسمع أصواتاً من الداخل الأوروبي يطالب بمراجعة السياسات والوقوف نوعاً ما بشكل وسطي بين الطرفين وليس كطرف متابع للهيمنة بعد أن شاهدوا أوكرانيا التي دفعت الثمن الأكبر وعليها القارة العجوز، بسبب تراكم أزماتها المتلاحقة، هل ستفعل الولايات المتحدة شيئاً ما من أجل الحلفاء شرق أطلسي؟ الأرجح لا لأنها طالما دفعتهم الى معاقبة الروس وأنفسهم بالدرجة الأولى، وهذا يعتبر ربما تخلياً عن حلفائها الأقلّ خسارة منها، فالقارة العجوز تفتقد إلى الطاقة، وبالتالي بدائل الحاجة الأوروبية المتقدمة اقتصادياً ليست كذلك، ثمة ما يكفي لإشباع السوق ضخاً للغاز والنفط من مصادره، وهي طبعاً الأقرب لروسيا المعاقبة، ولنفط إيران المتقاطع عقاباً، هذا ما تسبّب بعرقلة لبعض الأميركيين، حيث أفق البديل النفط الايراني استرجع عودة واشنطن بالإلحاح والإقرار للاتفاق وقد اعتبره البعض أمراً عسيراً، إلا أنّ انسداد أفق البدائل الخليجية، وكذا تغييب المصالح الأوروبية، كانت بمثابة الضامن الطاقي نظراً للمصلحة الأوروبية في الإنتاج بحكم الجغرافية طبعاً، وبالتالي كانت مجاراة الأميركيين في مقاربتهم تجاه الأزمة الأوكرانية بمواجهة الروس بكلّ السبل الممكنة لحفظ الهيمنة الأميركية، وهذه الخيبة نتيجة الخطأ الفادح الذي ارتكبته واشنطن بحق المواطن الأميركي والأوروبي معاً، وفي حال تخلت عن نرجسيتها تفتح أفاق الحلول بعيداً عن الملفات الشائكة، إذ استلمت مقترحات من الجانب الإيراني، وقد تحدثت عن إبلاغ من وجهة نظره، لما فيها من مصالح لبلاده، وانطلقت حسابات الأطراف لتدخل حيز خطة خفض الاستهلاك الغاز.
وما تسلكه مسارات جولة انتهاء محادثات فيينا ووفق الحسابات الإيرانية ربما قد تكون مبشرة، وذلك من خلال ما يُقال بأنّ واشنطن عينها على الإدارة الأميركية (فيينا) وأخرى على الانتخابات النصفية للكونغرس الذي يبدي مخاوفه من التنازلات وتحويل مساره الى ورقة مقايضة، لتبقى أوروبا معلقة بين خيارين أحلاهما مرّ إما البدء بالمشاريع الاستثمارية، وإما تأمين خطوط وأنابيب جديدة مع أكثر من مورد، فكيف ستتعامل مع هذه الخيارات قبيل بدء فصل شتائهم، وبالتالي كلّ هذه العوامل هي ضريبة التبعية الأوروبية لأميركا في مناهضة روسيا، فكان رهان واشنطن خاسراً كما أثبتت الأيام والأحداث…
رنا جهاد العفيف
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال