القوة الاقتصادية الهائلة للبادية السورية: ثروات دفينة.. ونقطة وصل عالمية 194

القوة الاقتصادية الهائلة للبادية السورية: ثروات دفينة.. ونقطة وصل عالمية

كلما دخلنا أعمق في اسباب الحرب على سوريا، كلما تبين لنا الأهمية الخاصة التي يمتع بها هذا البلد، وأسباب حث خطى العدو والصديق بإتجاهها. سوريا اليوم كما عبر التاريخ كنز حضاري، كنز يتموضع في وسط خطوط التجارة العالمية. وهذا الكلام لا ينطبق فقط على كميات الغاز الهائلة المكتشفة فيها والتي تتمركز في بحرها وبرها وصحرائها على حد سواء. فللبادية السورية أهميتها الإقتصادية والجغرافية أيضًا، ولا عجب أن الأميركي متمركز فيها ويسعى لنهب خيراتها.

وكما جهد الرومان للسيطرة على مملكة تدمر في القرن الثالث ما قبل الميلاد يعود  الجرمان والأنغلوساكسون، الأميركيون والأوروبيون، لشن حروبهم في المنطقة العربية ولإحتلال ما كان يحتله الرومان تاريخياً. فالهدف الأول وراء القاعدة الأميركية في التنف هو إحتلال الطرق المتقاطعة بين الجهات الأربع في البادية السورية، والتي تقع على منافذ سوريا البرية نحو الشرق. اذ تعد البادية السورية المعبر البري الأساسي الممتد من الصين عبر إيران والعراق وصولاً إلى ساحل المتوسط، وهو ما كان يعرف بطريق الحرير قديماً، وكان هذا الطريق يتجه جنوباً إلى محافظة حوران، درعا حالياً، والتي تقع فيها أهم مراكز اٌستراحات التجار قديماً مثل بصرى الحرير ومدينة بصرى الشام الأثرية عاصمة الغساسنة، ومن سهل حوران إلى فلسطين غرباً وشبه الجزيرة العربية شرقاً من أهم الطرق التجارية المعروفة تاريخياً وأقصرها وأسهلها لأنها تمر عبر سهول حوران الشرقية.

لذلك فإن احتلال الأميركي للبادية السورية من خلال القاعدة التي أنشأها في التنف على مثلث الحدود الأردنية ــ السورية ــ العراقية لم يكن خياراً عشوائياً. هو بالتأكيد يسعى للسيطرة على طرق السلاح الواصل للمقاومة في لبنان وفلسطين، ولكن الأمر الأهم منذ الخمسينات وحتى اليوم هو ما مثلته هذه البقعة في سوريا من أهمية خاصة لنقل خطوط النفط عبرها. ومن الجدير ذكره، أن خطوط التابلاين المعروفة تمر عبر البادية السورية. كما وقعت إيران في تموز/ يوليو 2011 اتفاقاً مع كل من سوريا والعراق لمد أنبوب للغاز يصل إلى البحر المتوسط وصولاً إلى اوروبا ويمكنه أن يمرر 110 مليون متر مكعب من الغاز يومياً. وحتى المشروع الصيني نطاق وطريق، أو طريق الحرير الجديد، لا يمكنه أن يكتمل إلا عبر البادية السورية. فهل يمكننا أن نتخيل تأثير ذلك على ترتيب العلاقات الإقتصادية ما بين الشرق وأوروبا على حساب العلاقة مع الولايات المتحدة والصهيونية العالمية؟

في الحقيقة وبعد حرب الإثنا عشر عاماً على سوريا لا يمكننا الحصول على القيمة الإقتصادية الدقيقة لنقل النفط وقريباً الغاز عبر البادية السورية، والذي يحتاج إلى عمل خاص، ولكن يمكن لسوريا عبر البادية فقط أن تكون مركزاً إقليمياً لتقاطع خطوط النفط والغاز من الجنوب والشرق إلى الغرب والشمال، هذا عدا القيمة التي ما زالت قيد التقدير بالنسبة لكميات النفط والغاز التي تختزنها أراضيها. وهذا الأمر غير مستغرب، فالبادية السورية هي جزء من شبه الجزيرة العربية التي تمتد ما بين مثلث الأنهر: الفرات ودجلة والنيل.

وهنا يمكننا الحديث، ليس فقط عن دور البادية السورية والتي تسيطر الولايات المتحدة بإحتلالها على الحركة التجارية فيها وعلى تنفيذ اتفاق بناء سكة الحديد الذي توقف مع العراق في العام 2011، والذي له تأثير كبير على حركة التجارة إلى الموانئ السورية، بل أيضاً عن إعادة استثمار وتأهيل خطوط النفط والغاز في البادية بسبب وجود قاعدة التنف التي تنطلق منها هجومات داعش المباغتة بشكل دوري. 

قبل الحرب على سوريا في العام 2011 كانت تعتبر حقول البادية من أهم الحقول التي تعتمد عليها الدولة السورية في انتاج النفط وبلغ انتاجها 380 ألف برميل نفط خام، هذا مع العلم أن هناك آبار واعدة لم تحفر بعد، وبحسب "مركز فيريل للدراسات في برلين"، سوريا كانت في العام 2011 ستصبح ثالث مصدر للغاز عالمياً، وقدر احتياطي الغاز بـ 28.5 بليون متر مكعب. ثلاثة من حقول الغاز موجوده في البادية شمال تدمر وكانت تكفي لزويد كامل سوريا بالطاقة الكهربائية 24/ 24. كما ان 82% من النفط والغاز السوري يتركيز ما بين البادية والساحل، والبادية جزء من محافظة حمص، والتي يوجد فيها واحدة من أكبر وأهم مصافي النفط في الشرق، حمص التي تعرضت لنكبة منظمة خلال الحرب على سوريا. بينما تتسع حقول الجزيرة السورية، شرقي الفرات وغربه، لـ 12% من النفط والغاز السوري، والتقارير تقول أنه خلال سنوات سيضاءل مخزون هذه الحقول وسيقل في كل يوم حتى يصبح احتلالها بالنسبة للأميركي ليس بذي جدوى اقتصادية.

الثروتان الطبيعيتان الأخرتان اللتان تزخر بهما البادية السورية هما الفوسفات والسيليكا. تدخل السيليكا في تركيب الرمال، أية رمال في العالم. والسيليكا عماد للإستخدامات الصناعية وبالذات الزجاج، والتي هي صناعة تاريخية قديمة اشتهرت بها سوريا بحرفية عالية جداً. وأما اليوم، فتعتمد الصناعات التقنية الحديثة عليها، ويجعل ذلك السيلكا تكتسب اهمية متزايدة عالمياً في كل يوم، اذ تصنع من السيليكا الرقائق الإلكترونية. تختلف نسبة السيليكا في كل أرض، وحتى أن وجود السيليكا في الهند أهلها لتصبح واحدة من أهم اقتصاديات العالم. في العام 2020 كشف علي الرويشدي، مدير فرع حمص للمؤسسة العامة للتكنولوجيا، عن مفاوضات نهائية مع شركة "ساوي" الصينية من أجل إنشاء مصنع لإنتاج السيليكا من الرمال الكوارتزية، والتي هي صخور رملية نقية تحتوي على نسبة عالية من السيلكا، ثاني اوكسيد السيليكون SiO2، قليلة الشوائب. 

وقبلها بعقد كامل، في العام 2010 صرح المدير العام لمؤسسة الجيولوجيا، جمال الدين الديري وهو جيولوجي، أن الرمال المنتشرة في سوريا عبارة عن مواد رسوبية سيليسية تحتوي على نسب مختلفة من السيلكا تصل أحياناً نسبتها لـ 99%. وكشف أن الرمال الموجودة في مناطق واسعة من سوريا، ولكن اهمها يقع في "القريتين" شرقي حمص، أي في عمق البادية السورية، وتوجد فيها أفضل أنواع الرمال السيليسية، وبحسب الديري فإن هذا النوع من الرمال يتواجد بشكل طبيعي حول المناظق الغنية بالفوسفات. الإستثمار في الرمال السيليسية في سوريا جار منذ العام 2018، ولذلك فإن أي تقارير عن أن سوريا تملك ثروة قيمة من السيليكون بنقاوة تفوق تلك المستخرجة من صحراء نيفادا هي تقارير دقيقة وعمرها على الأقل 15 عاماً، أي منذ الإنزال الليلي الذي قامت به الولايات المتحدة في العام 2008، وسرقت عينات من رمال الصحراء السورية وعادت بها إلى العراق. هل يمكننا تصور أهمية الإكتشاف؟ خاصة وأن سوريا ستحقق بذلك قفزة نوعية على صعيد تصنيع الحواسيب، وذلك بعد تثبيت إستثمارات شركات التكنولوجيا الصينية في داخل البلاد، وهذا يعد أمر مرعب بالنسبة للأميركيين والصهاينة على حد سواء.

وأما الفوسفات، فهو من اهم ثروات البادية الطبيعية، ويوجد معمل هام للفوسفات في حمص. واكتسب كل من المعمل ومادة الفوسفات أهمية متزايدة بعد الحرب الأوكرانية، فقد عادت أوروبا ومنها دول إيطاليا وفرنسا وبلغاريا اسبانيا وبولندا وأوكرانيا حتى العام 2017، وذلك بحسب ما نشرته الغارديان في العام الماضي، لإستيراده من سوريا. اذ تعتمد اليوم الزراعة في أوروبا بشدة على الفوسفات السوري في صناعة السماد الزراعي، وخاصة بعد توقف الصادرات من أوكرانيا. وقبل العام 2011 كانت سوريا أكبر مصدر للفوسفات، وقد عادت للنمو بسرعة كبيرة منذ العام 2020. وتتم اليوم حراسة المناجم من قبل الجيش السوري وأمنيين روس وذلك بسبب الهجمات التي تشنها تنظيمات داعش بين الآونة والأخرى. ومن هنا يمكننا أن نفهم أسباب الهجوم على حافلات عناصر الجيش السوري المتجهة للإستراحة في بيوتها، إنها محاولة خسيسة من أجل ضعضعة العزيمة بينهم، وبالتأكيد أن مدفوعة من قبل الأميركيين الذين يستهدفون وضع اليد على فوسفات البادية الذي تجاوزت أوروبا العقوبات على سوريا من أجله. وبالتأكيد، من أجل منع استثمار الغاز والنفط فيها كما فعلوا في شرق الجزيرة السورية.

إضافة إلى الثروات الطبيعية تزخر البادية السورية بمادتين غذائيتن هامتين، هما المنتجات الحيوانية والكمأة. يعيش بدو سوريا الرحل معتمدين على تربية  الغنم بشكل خاص، وبخاصة الغنم العواس. وإذا ما كنت تحب المشاوي في سوريا، فاعلم أنها من لحم العواس، أفضل أنواع الغنم على الإطلاق. يقال هذا الكلام كي يفهم القارئ أهمية الثروة الحيوانية في سوريا، والتي تعرضت للنهب والسلب خلال العشر سنوات الماضية عبر الفوضى المنظمة التي وكلت بها جماعات داعش في سوريا والعراق. في ثروات البادية السورية الغذائية كلام آخر لا يقل اهمية عن ثرواتها الباطنية، فهل إتضحت الفكرة أكثر حول أسباب الحرب على سوريا؟ 

هل اتضحت أسباب الثقة التي تتمتع بها دعوة سوريا الواثقة من خلال مؤتمر الجامعة العربية للإستثمار لإعادة القوة الإقتصادية فيها؟


المصدر: العهد

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال