من المعلوم أن مراكز الأبحاث الصهيونية تؤدي دوراً مركزياً في صنع القرار الداخلي، وخاصة ما يتعلق برسم استراتيجيات ما يُسمّى “الأمن القومي الإسرائيلي”. وعلى الرغم من أنها تعتبر جهات غير رسمية، ولا تمتلك صلاحيات قانونية في صناعة تلك القرارات، إلا أن العرف الذي جرى على انشغال الجهات الرسمية القائمة على صناعة قرارات الأمن القومي في “إسرائيل”، أتاح مساحة واسعة لمراكز الأبحاث في المشاركة غير المباشرة في صنع استراتيجيات قرارات الأمن القومي الإسرائيلي، كما أن العديد من هذه المراكز أنشئت من قبل مسؤولين سابقين في مراكز حسّاسة، بما في ذلك رئاسة الحكومة أو جنرالات سابقون.
ويعتبر “معهد الأمن القومي الإسرائيلي” التابع لجامعة “تل أبيب” من أبرز هذه المراكز، وهو يصنّف الأول “إسرائيلياً” والثاني عشر عالمياً في مجال الدفاع والأمن القومي، بحسب تصنيف جامعة بنسلفانيا الأمريكية، ومن المعروف أن هذا المعهد يقدّم بشكل سنوي تقديراً استراتيجياً عن أبرز التحديات والتهديدات التي تجابه دولة الاحتلال وترتيب أولوياتها بشكل هرمي، ويكفي لإدراك أهمية ذلك التقدير أنه يقدَم مباشرة إلى رئيس هذا الكيان، ويستغل ذلك في توسيع دائرة التحديات لكي يتاح للمسؤولين الصهاينة الترويج لها على المستوى الدولي وضمن علاقات الكيان لاستقدام المزيد من الدعم المعنوي واللوجستي تحت ذريعة تزايد التحديات المهدّدة للأمن القومي الصهيوني.
وبملاحظة ما نشره معهد الأمن القومي الإسرائيلي وسمّاه التقدير الاستراتيجي لـ”دولة إسرائيل” لعام 2022 تحت عنوان “زمن القرارات الحاسمة”، والذي اتسم بلغة بحثية جادة وصارمة في حجم التهديدات والتحديات، يمكن لنا أن نجزم بأن استخدام تلك اللغة الواضحة يعتبر أكثر من سابقة في تاريخ التقارير التي يعدّها المعهد الصهيوني، سواء من حيث إيراد الوضع الداخلي الهشّ والذي ظهر مع تفاقم الوضع داخل الأراضي المحتلة بعد انتفاضة حي الشيخ الجراح وتحرك عرب 48، أو حالة الرعب التي اعترت المستوطنين إثر سقوط صواريخ المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وفشل المنظومة الدفاعية. أما على الصعيد الخارجي فإن التقرير من الواضح أنه بالغ لدرجة غير معقولة بخطورة العودة للاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، وكذلك دور حزب الله في دعم باقي فصائل المقاومة وتنامي قدراته الصاروخية. أما الدوافع والعوامل التي جعلت هذا التقرير الاستراتيجي لعام 2022 يتسم بصيغة الرعب في ذكر التحديات فتعود لعدة عوامل، تتمثل أبرزها وفق التالي:
أولاً: تغيّر المسؤول عن المعهد الأمن القومي في شهر أيار عام ٢٠٢١ ليحلّ البروفيسور “مانويل تراختنبرغ” المشهور بقربه من اليمين المتطرف، والذي يعتبر قريباً من المنظومة العسكرية ذاتها، الأمر الذي انعكس على لغة ومضمون التقرير، سواء من حيث تناول التحديات والتهديدات بلغة تعبّر عن امتعاض الجبهة الداخلية الإسرائيلية من جهة، أو غياب المجاملات للمؤسّسة العسكرية من جهة أخرى.
ثانياً: عدم القدرة على إخفاء الحقيقة عن الرأي العام بعد سلسلة التصريحات والفضائح الداخلية الصهيونية، والتي تميّزت بأن هناك استشعاراً كبيراً جداً وهائلاً بالخوف والخطر من قبل أصحاب التقارير ومعديها على مستقبل الكيان الصهيوني. وهو ما انعكس على شتى المواضيع والقضايا التي ناقشها التقرير السنوي، حيث إن الصورة كانت غير وردية بل أقرب للسوداوية، وخاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية، التي من خلال قراءة تفاصيل التقرير نتلمّس بسهولة أنها تمثل التهديد رقم واحد لدولة الاحتلال، حتى ولو لم يعترف التقرير مباشرة بذلك، فكان واضحاً من فحوى التقرير أن التهديد الفلسطيني ذو علاقة بضرب الهوية الأساسية للمشروع الصهيوني أو ما يُسمّى “دولة إسرائيل” كدولة يهودية، من خلال فرض الأمر الواقع واتباع سياسة التمييز بهدف الوصول لما يعرف بـ”الدولة الواحدة”، وهو ما سيقودها إلى أن تتحول تلقائياً لدولة “أبارتهايد” التي من المؤكد أن العالم سيعاديها، ولا يمكنها تسويق نفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها مندوبة العالم المتحضر في الشرق المتوحش كما تدّعي الصهيونية، ما يعزّز من خطورة تهديدات القضية الفلسطينية، لأنها تتقاطع مع التهديدات الداخلية في الكيان الصهيوني، وخاصة مع وصول نسب التطرف والاستقطاب السياسي وعدم المساواة في التكاليف بين شرائح المستوطنين، إلى مستويات أرعبت كل من يقرأ التقرير، إضافة إلى المخاوف الإسرائيلية من جبهة الضفة الغربية في حال انفلات عقد السلطة الفلسطينية أو تزايد الشرخ السياسي الفلسطيني -كما أشار إلى ذلك التقرير صراحةً- ما سيؤدي إلى حالة استنزاف وتهديد ستجعل “إسرائيل” غير قادرة على مواجهة التهديدات الخارجية وخاصرتها الأمنية رخوة.
ثالثاً: تتمثل بمتغيّرات داخلية ذات علاقة بالتغيرات في الحلبة السياسية الإسرائيلية، حيث إن هذا هو أول تقرير استراتيجي بعد انتهاء رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ عام 2009 “بنيامين نتنياهو”، والذي تفاجأت “إسرائيل” وفق التقرير بأن هذا الرجل كان من دون استراتيجية حقيقية، بل كان يعتمد على انتظار الفرص، وانتهازها واستثمار كل شيء لمصالحه الخاصة، وكان يبادر نحو المحسوبيات، ويعتمد على اللوبي الصهيوني في أميركا.
النقطة الأبرز أن تقرير عام 2022 كان يوصي بشكل واضح بأن على “إسرائيل” في هذا التوقيت ألا تغضب الولايات المتحدة الأميركية، وأي خيار لا بد أن يكون بالتنسيق المشترك معها، وخاصة مع إشارة التقرير إلى تعقيدات موازين القوى الدولية والمنافسة الشرسة التي تواجهها أميركا من قبل الصين وروسيا، وتنامي قدرة محور المقاومة الذي لن يستطيع الكيان مجابهته بشكل كامل، الأمر الذي دفع بكاتبي التقرير إلى إفراد فصل كامل من التقرير لهذا الموضوع.
المصدر: البعث
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال