الكيان الصهيوني.. من التيه السياسي إلى أزمة العقد الثامن 52

الكيان الصهيوني.. من التيه السياسي إلى أزمة العقد الثامن

“إسرائيل” أصبحت تعيش مرحلة تيه سياسي حقيقي، أمام انعدام القوة السياسية الإسرائيلية، سواء كانت يسارية أو يمينية متطرفة.

غادر نفتالي بينيت المشهد واعتزل الحياة السياسية، عقب انهيار الائتلاف الإسرائيلي، الذي لم يصمد أكثر من عام. بعد تأرجح طويل، بدأت مظاهر التفكك والتخبط السياسي تظهر شيئاً فشيئاً، فمسببات الفشل والهشاشة كانت بارزة في الائتلاف، والانهيار كان أمراً متوقعاً نظراً إلى تشكيلته غير المتجانسة، في ظل حالة الانقسامات غير المسبوقة التي تعيشها الأحزاب الإسرائيلية.

انبرى المشهد الإسرائيلي، بعد مغادرة بينيت، إلى دوامة سياسية جديدة، فتحت الباب على مصراعيه للتوجه إلى انتخابات إسرائيلية خامسة، وحالة من عدم الاستقرار السياسي مجدداً، أمام تصاعد الصراعات وشبح عودة بنيامين نتنياهو، زعيم المعارضة الإسرائيلية، الذي يطمح بالعودة إلى الواجهة من جديد، وخيار الانتخابات الإسرائيلية المبكرة الخامسة خلال ثلاث سنوات أصبح حاضراً لا مفر منه، وهو ما يعكس عمق الأزمة والكارثة السياسية التي تعيشها “إسرائيل”.

استطلاعات الرأي الأخيرة التي جرت في “إسرائيل” لا تعطي مؤشراً واضحاً إلى قرب انتهاء الأزمة السياسية، بل على العكس، سيبقى المشهد يراوح مكانه، إذ أعطت النتائج كتلة اليمين الإسرائيلي ما نسبته 58 إلى 59 صوتاً، فيما أعطت ما تسمى “كتلة التغيير” 55 صوتاً من دون “القائمة الموحدة”، وبالتالي إذا التحقت “القائمة الموحدة” بـ”كتلة التغيير”، وأعادت إنتاج نفسها، وفق استطلاعات الرأي، ستحصل كلتا الكُتلتين الإسرائيليتين على نسب متساوية 59 -59 مقعداً في الكنيست، وهو ما سيعيد “إسرائيل” إلى السيناريو نفسه من جديد، ويبقي الأزمة السياسية عنواناً متصدراً للمشهد الإسرائيلي.

الصراعات والانقسامات والتفكك وأزمة الحكم، كلها عناوين تسيطر على المشهد إسرائيلياً، وإذا ما استحضرنا تجربة حزب العمل الإسرائيلي الذي أسس “إسرائيل” عام 1948م، أصبح في هذه المرحلة يتلاشى بسبب الصراعات كحزب بلا قيمة أو تأثير أو حتى ثقل سياسي، أمام ظهور أحزاب صغيرة وانشقاقات جديدة، وازدياد ظاهرة التطرف والمصالح الحزبية بين المكونات الإسرائيلية، كلها تجتمع في مؤشر واضح إلى بداية تآكل “إسرائيل” داخلياً.

“إسرائيل” أصبحت تعيش مرحلة تيه سياسي حقيقي، أمام انعدام القوة السياسية الإسرائيلية، سواء كانت يسارية أو يمينية متطرفة، نتيجة الانشقاقات المستمرة فيها، وغياب مفهوم الرؤى الاستراتيجية لها، وبالمعنى الأدق، فإنّ التركيبة الإسرائيلية الحالية ما هي إلا مجموعة من الأحزاب المتناحرة ليس إلا، وتتاجر بشعارات أصبحت مستهلكة لم يعد لها رصيد حقيقي على أرض الواقع أمام الجمهور الإسرائيلي، وغالبيتها تستخدم شعارات مكررة مثل، القدس عاصمة موحدة لـ”إسرائيل”، وحماية “إسرائيل” من الإرهاب في قطاع غزة ولبنان والخطر الإيراني.

حالة التيه السياسي لم تقتصر على تفسير نتائج استطلاعات الرأي، فكثير من مراكز الأبحاث والدراسات الإسرائيلية حذرت، مراراً وتكراراً، مما أسمته حالة العجز عن إنتاج جسم سياسي حقيقي، نتيجة ظاهرة الاقتتال وصراعات القوى المتصاعدة والتفكك في “إسرائيل”.

ثمّة ملامح تركيبة سياسية جديدة بدت تتشكل في “إسرائيل” غير مبنية على حزب الليكود كحزب يميني أو حزب العمل كحزب يساري، وإنما تركيبة تعكس حالة الانشقاقات والتفكك ذات ملامح يمينية متطرفة جداً، لكنها، في الوقت ذاته، لا تستطيع الحصول على قوة داخل الكنيست الإسرائيلي، وعاجزة في الوقت ذاته، عن بناء استراتيجية تقود بها “إسرائيل”، وهو ما يعكس عمق الأزمة التي تعيشها تلك الأحزاب الإسرائيلية.

ما يجرى داخل “إسرائيل” ليس اقتتالاً أو تناحراً داخلياً سياسياً فحسب، تضاف إليه حالة العنصرية المتنامية داخل “إسرائيل”، والمطالبة بمبدأ المساواة الغائب بين اليهود. وبالمناسبة، القضية ليست مرتبطة بيهودي شرقي أو غربي، إذ إن هناك العديد من الأزمات المستفحلة داخل المجتمع الإسرائيلي، ومنها قضية يهود اليمن والمغرب والعراق، ناهيك بالعديد من الجنسيات المتصارعة والمتشابكة داخل “إسرائيل”. هذه المسميات هي ذاتها اليوم تبحث لها عن وجود يحقق لها ما تسميه مساواة حقيقية ما بين اليهود الإسرائيليين، وهي ذاتها التي تشكل أحزاباً وتبحث عن تمثيل في الكنيست الإسرائيلي، وهو ما يعكس حالة التفتت الكبيرة التي وصلت إليها التركيبة الداخلية الإسرائيلية.

“إسرائيل” تعيش أزمة مشروع طفت على السطح، وفي الوقت ذاته، بدأت تفقد هُويتها العلمانية الليبرالية إلى هوية أكثر تطرفاً وتشدداً بسبب الأزمات الداخلية التي تعيشها، وحالة الاستقطاب السياسي الداخلي، وهذا ما تنظر إليه مراكز الدراسات الإسرائيلية أنه الخطر الذي يهدد بنية المجتمع من الداخل الإسرائيلي وسيؤدي إلى انهياره تدريجياً.

حالة اللا استقرار السياسي تجعل “إسرائيل” أمام مفترق طرق، وستزيد المشهد تعقيداً، وعدم حسم قواعد اللعبة السياسية بالطرق السياسية سيزيد حالة التطرف تطرفاً، ما يجعل الأوضاع تتجه إلى خيار الحسم بأدوات غير سياسية، وهذا ربما يؤدي إلى صراع اجتماعي غير معهود مبني على خلفية سياسية وقد يحدث صدامات كبيرة داخل “إسرائيل”، لذلك حذر كثير من القادة الإسرائيليين بأن المجتمع الإسرائيلي ذاهب لا محالة إلى سيناريو الصدام والتشرذم، بسبب تصاعد العنصرية الدينية والصراعات السياسية الداخلية.

ما بين حالة التناحر وانعكاساتها وتداعياتها على البنية الداخلية الإسرائيلية، تسيطر أزمة العقد الثامن على العقل الإسرائيلي أكثر من أي وقت مضى، بعد أن مضت “إسرائيل” بعيداً، ووقعت اتفاقيات تطبيع مع دول خليجية وعربية سعت من خلالها الى إيجاد سردية لوجودها كـ”دولة” يمكن التعايش معها في المنطقة، لكنها فشلت.

الواقع يقول إنّ “إسرائيل” داخلياً ما زالت مأزومة، فلا هي استراتيجياً نجحت في أن تفرض نفسها على الدول التي طبّعت معها، ولا استطاعت أن تبني سردية سياسية اجتماعية ثقافية لوجودها في المنطقة، كما أنها لم تستطع أن تذهب بالتطبيع بخطوات أكثر نجاعة لها كما كانت تتوقع.

أي وضع تعيشه “إسرائيل” اليوم؟ مرت الذكرى الرابعة والسبعين لإقامة “إسرائيل” كـ”دولة” احتلال، وهي مناسبة سجلت عمق الأزمة التي تعيشها، وعلى لسان قادة إسرائيليين مثل، أيهود باراك وبيني غانتس وبنيامين نتنياهو، كلهم أطلقوا جملة من التحذيرات الإسرائيلية من لعنة العقد الثامن التي تنتظر مستقبل “إسرائيل”، وتحدثوا عن شكوك كبيرة من أن تقترب “إسرائيل” من العقد الثامن بعد سنوات قليلة، على اعتبار أن المعطيات الداخلية الإسرائيلية لا تشجع على الوصول إلى هذه المرحلة العمرية.

ربما تمتلك “إسرائيل” قوّة فتاكة واقتصاداً هائلاً، لكن كل هذا لا قيمة له، فنقطة ضعفها في ذاتها، وهي كبنية سياسية داخلية، لم تعد قوية كما يتصور البعض أو يتوهم آخرون، وكما قال الرئيس السابق للموساد “تامير باردو” مؤخراً:” إن إسرائيل فعّلت آليات التدمير الذاتي لها في ظل حالة الاستقطاب الداخلي، والانقسامات والصراعات غير المسبوقة، وتصاعد التطرف الديني فيها”.

خلاصة.. “إسرائيل” “دولة” تعيش على الصراعات والانقسامات والتفكك، كلها أسباب مجتمعة أصبحت تُشكّل عوامل قلق بين الإسرائيليين، تجعلهم يضعون علامات استفهام كبيرة حول إمكانية الوصول إلى لحظة العقد الثامن بعد سنوات قليلة، وهذا يجعلها تعيش أزمة وجودية، بل ويهدد كينونتها وبقاءها أكثر من أي وقت مضى.

 

شرحبيل الغريب

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال