كان اجتياح لبنان محاولة إعادة تثبيت المعادلة النفسية لصالح الكيان الإسرائيلي وتكريس نهج الاستسلام أمام جبروت القوة ، لكن المقاومة أعادت خلط الأوراق في لبنان والمنطقة بجهادها وصمودها خلال عشرين عاماً من الاحتلال.
تتشابه التواريخ وقد يعيد التاريخ نفسه من حيث الأحداث.. لكن ما بين 5 حزيران/يونيو 1967 و6 حزيران/ يونيو 1982 أرخا لبداية حقبة وانتهائها وأريد منها تكريس وهم التفوق الاسرائيلي على الجيوش العربية.
بين حزيران النكسة والاجتياح .. كسر المعادلات
أُريد من هزيمة 67 أن يكون لها وقع سلبي على معنويات الجيوش والشعوب العربية لتوظيفها لاحقاً في مشاريع الأنظمة التسووية مع كيان الاحتلال، وجاءت حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين لتعيد شيئاً من الكرامة. لكن الولايات والتحدة وحليفتها “اسرائيل” استمرا في محاولات توهين إرادة الشعوب، وكان اجتياح لبنان محاولة إعادة تثبيت المعادلة النفسية لصالح الكيان الإسرائيلي وتكريس نهج الاستسلام أمام جبروت القوة ، لكن المقاومة أعادت خلط الأوراق في لبنان والمنطقة بجهادها وصمودها خلال عشرين عاماً من الاحتلال.
الحروب الخاطفة والسريعة ونقل المعركة إلى أرض الطرف الأخر وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر في الطرف الأخر، ركائز أساسية اعتمدها الكيان الإسرائيلي لكسب حروبه، لكنها في الحروب اللاحقة لم تعد ممكنة. بعد حرب ثلاثة وسبعين لم تعد الحروب مع الجيوش العربية مجتمعة، واقتصرت الحروب مع لبنان وحده لكن سرعة الحسم تلاشت… في اجتياح بيروت قرابة ثلاثة أشهر، في عدوان تموز اثنين وتسعين، ثمانية أيام، وستة عشر يوماً في عدوان نيسان ستة وتسعين، وثلاثة وثلاثين يوماً في عدوان تموز ألفين وستة!
ويشير إلى هذا المنحى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في دراسة تقويمية وضعها الباحث والخبير العسكري “جيفري وايت” حول حرب تموز فيقول إنّ “حزب الله يؤدي دوره بشكل جيد جداً، حيث احتاج الجيش الإسرائيلي إلى أربعة أسابيع كي يغرق في وحول قرى صغيرة في جنوب لبنان، بينما احتاج إلى سبعة أيام للوصول إلى مشارف بيروت خلال اجتياح العام 1982!
انقلبت الصورة هنا، وباتت الشعوب العربية وحتى جيوشها تعيش عصراً آخر، إذ لم تعد الحرب كما في السابق محسومة سلفاً لصالح الكيان المؤقت، بالرغم من احتفاظه بكل مقومات التفوق الجوي والبحري والبري عسكرياً والدعم غير المحدود من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
ما جرى عام اثنين وثمانين 1982 ومقولة أن فرقة موسيقية في الجيش الإسرائيلي تستطيع غزو لبنان ذهبت إلى غير رجعة، وها هو الجيش الإسرائيلي يلقي بكل ثقله في تموز ألفين وستة لاختراق الأراضي اللبنانية وبقي غارقاً أياماً طويلة عند تخوم مارون الراس المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة يتكبد الخسائر في الجنود والدبابات.
تجربة المقاومة في لبنان وانتصاراتها المتلاحقة على الكيان المؤقت أثبتت العديد من الوقائع وكرست مفاهيم مغايرة للتفوق والقدرة والامكانيات عمّا كانت عليه في حقبة الانكسار أمام قوة “اسرائيل.”
اجتياح لبنان 1982
السادس من حزيران/ يونيو 1982 تاريخ الاجتياح الاسرائيلي للبنان لن يعيد نفسه بالتأكيد على الأقل بالنسبة الى لبنان وأي بلد فيه مقاومة .هذا التاريخ يحمل في طياته صفحات ذل حوّلها رجال ضحوا، إذ كان يخطط له أن يصبح أداة طيعة في الأجندة الأميركية الإسرائيلية، لكن ولدت من رحم الظلم مقاومة أرست فيه معادلات القوة، معادلات باتت اليوم قادرة على تهديد أميركا وردع “إسرائيل” وامتلاك صواريخ دقيقة تطال كل ناحية في “تل أبيب”.
في تلك الأيام، قررت حكومة العدو برئاسة مناحيم بيغن آنذاك ووزير حربه أرئيل شارون تنفيذ خطة لعملية عسكرية واسعة في لبنان، ودار الحديث في جلسة الحكومة الإسرائيلية التي عقدت بتاريخ 5 حزيران/ يونيو 1982 عن حزام أمني يمتد حوالي 40 كيلومتراً من الجنوب اللبناني لحماية شمال الكيان.
وضع العدو الصهيوني خطة الحرب مسبقاً واصطنع مبرراً لشن هجومه على الأراضي اللبنانية وهو محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، فقام بشن عملياته العسكرية على ستة محاور داخل الأراضي اللبنانية، ففي صباح يوم 6 حزيران/يونيو 1982 بدأت الدبابات الإسرائيلية بالتقدم داخل الأراضي اللبنانية مخلّفة الكثير من الدمار والضحايا في مدنه وقراه وسط مباركة أميركية كاملة واكتفاء عربي ودولي بالتنديد. وكما حصل في اجتياح آذار 78م كان التّبرير للاجتياح ضرب الفلسطينيين وأماكن تجمّعهم، مع فارق وحيد هو إصرار العدو الصهيوني على توسيع رقعة الاحتلال وقيامه بعمليات إنزال عنيفة، استمرّت حتّى ساعات الفجر الأولى، مستهدفةً منطقة الأوّلي عند حدود مدينة صيدا، وقبلها منطقة الزهراني وشواطىء صور وضواحيها.
لم تمض أيامٌ ثلاثة على بداية الغزو الإسرائيلي عام 1982 حتى وصلت القوات الإسرائيلية الى مداخل العاصمة، سقطت المناطق الواحدة تلو الأخرى، وبعد 5 أيام تمكن الجيش الصهيوني من بسط سيطرته على أكثر من ثلث الأراضي اللبنانية في الجنوب والجبل حتى تخوم العاصمة بيروت بينما بقيت مناطق الشمال والبقاع خارج سيطرة العدو.
وفي 14 حزيران/ يونيو دخل الجيش الإسرائيلي القسم الشرقي من العاصمة اللبنانية بيروت الذي كان تحت سيطرة ميليشيات القوات اللبنانية المتعاونة مع العدو الصهيوني بقيادة بشير الجميل، وبدأ الطوق يشتد حول القسم الغربي من العاصمة، وبعد القصف الصهيوني المتواصل لبيروت الغربية وسقوط عشرات آلاف الجرحى من المواطنين، ضيق العدو الحصار على بيروت وقصف الضاحية الجنوبية.
من بوابة خلدة… انطلقت المقاومة
بداية التصدي الأقوى للعدوان الصهيوني على مشارف العاصمة اللبنانية بيروت كان في منطقة خلدة، في إشارة إلى بداية مقاومة ستُجبر العدو على الانسحاب ذليلاً بعد أقل من عشرين عاماً.
لقد كان التيّار الثوريّ الإسلاميّ قد ترسّخ في لبنان بسبب وجود الأجواء الملائمة، وكانت التجربة الأولى على مشارف بيروت في منطقة خلدة حيث تصدّى الإسلاميون المؤمنون على الطريق الساحلي بين الناعمة وخلدة. وقد كرّرت القوّات الإسرائيلية محاولات الإنزال في منطقة خلدة أكثر من مرّة طوال يوم التاسع من حزيران عام 1982م إلّا أنّ جميع هذه المحاولات باءت بالفشل نتيجة المقاومة الشديدة التي جُوبهت بها من قبل القوات المشتركة (اتّحاد الطلبة المسلمين وشباب حركة أمل وبعض الشباب المؤمن الملتزم).
وقد أنزلت إحدى البوارج الإسرائيلية ما بين 12 و 15 آلية ودبابة برمائية. ولدى وصول الآليات والدبابات إلى الطريق شنّت القوات المذكورة هجوماً صاعقاً عليها وواجهتها بقذائف الآر بي جي، والرشقات النارية الغزيرة، فاندفعت الآليات والدبّابات باتّجاه مدينة الزهراء وهناك كانت مجموعة من عناصر حركة أمل تنتظر الغزاة فأمطرتهم بوابل من القذائف والرصاص، فاندلعت النيران في ثلاث دبابات واحترقت مع من كان في داخلها من الجنود الإسرائيليين وامتدّت المعركة إلى أحد المباني المجاورة الذي هرب إليه جنود إسرائيليون كانوا قد تركوا آلياتهم ولاحقتهم عناصر القوات المشتركة “المؤمنة” إلى داخل المبنى وقضت عليهم.
وفي هذه الأثناء استولى المجاهدون على إحدى المدرّعات الصهيونية وأخرجوها من ميدان المعركة وجاؤوا بها إلى داخل بيروت (حي بئر العبد في ضاحية بيروت الجنوبية)، فيما راح الطيران الحربيّ الصهيونيّ يدكّ أرض المعركة بالصواريخ الثقيلة، فانهارت إحدى البنايات بكل طبقاتها بينما كان يتمترس بداخلها عدد من المجاهدين، فانتقلوا إلى جوار ربّهم شهداء أبرار.
بيروت 1982 حين استجدى الإسرائيليون الانسحاب
يا أهل بيروت، أوقفوا إطلاق النار، فنحن سننسحب صباحًا!
عبر شوارع بيروت، وأزقتها، دوّت تلك الجملة عبر مكبّرات الصوت التي اعتلتْ السيارات العسكرية الإسرائيلية، والتي كانت تدور دوراتٍ محمومة، كالذي يُغشى عليه من الموت، في دهاليز العاصمة المقاوِمَة.
كانت بيروت قد شهدت الصيف الأكثر سخونة في تاريخها بأكمله، إذ حوصِرَت الأحياء الغربية والجنوبية منها لأكثر من شهريْن، ووقعت ضحية قصف إسرائيلي جوي ومدفعي لم تتعرض لمثله عاصمة عربية.
انسحب الإسرائيليون من بيروت أواخر سبتمبر/ أيلول أوائل أكتوبر/ تشرين الأول عام 1982م، يجرون أذيال الخيبة العسكرية، بعدما أوشكوا على احتلال عاصمةٍ عربية جديدة بعد مدينة القدس الشريف، وذاقوا بشكلٍ مكثَّف مرارة حروب العصابات، وعمليات المقاومة، والتي كانت أشد عليهم من حروب الجيوش النظامية العربية التي خبِروها، وأجادوا الانتصار عليها غيرَ مرة.
قد تكون المعركة على أبواب بيروت، وثبات المقاومة التي تجمعت فيها لمواجهة وحدات العدو، هي التي شكلت حينها أحد مرتكزات انطلاق المقاومة الفعلية المنظمة ضد العدو، والتي وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من تماسك وإمكانيات واقتدار، فاستطاعت بخطى ثابتة وثقة، أن تُجبِر العدو على تغيير العديد من مفاهيم عقيدته العسكرية، وبعد أن كان جيشه “الجيش الذي لا يقهر”، أصبح اليوم “أوهن من بيت العنكبوت”، واستطاعت المقاومة أن تخلق ذهنية جديدة في مواجهة العدو، استندت فيها على إلغاء فكرة طالما كانت سائدة، بأنّ جيشه قوي ولا يمكن التغلب عليه، وتثبيت فكرة مغايرة تمامًا، إن إلحاق الهزيمة بجيش العدو أصبح واردًا كل وقت وفي كل مكان أو منازلة.
سقوط نظرية أمن الجليل
ما إنّ وصل الحرس الثوريّ الإيرانيّ إلى مدينة بعلبك اللبنانية بعد الغزو الصهيوني، حتّى باشر بتدريب الجماهير المؤمنة، المسلّحة على فنون القتال والقيام بعمليات عسكرية، فنشطت العمليات والكمائن والهجمات ضد جيش الاحتلال الصهيوني.
وأدّى تصاعد المقاومة في المناطق التي يحتلّها الجيش الإسرائيلي في الجنوب إلى أن تذهب أهداف الغزو أدراج الرياح، فقد اضطرت أميركا إلى الهرب هي وحلفاؤها من بيروت للنجاة من العمليات، بعد تدمير مركز “المارينز” في بيروت ومركز المظليين الفرنسيين في بيروت.
ومع ارتفاع عدد القتلى والجرحى، ازداد الضغط الداخلي محذّراً من استمرار احتلال جنوب لبنان، فما كان من القادة الصهاينة إلا أن أنشأوا (قوّات الشريط الحدودي) من العملاء والمأجورين ليكونوا سدّاً دفاعياً تتمترس من خلفه القوّات الإسرائيلية لتصبح في مأمن من العمليات للمقاومة العسكرية، وسقطت نظرية أمن الجليل التي سعى العدو الصهيوني لتفعيلها عبر غزوه للبنان.
نهوض المقاومة: تراجع الاحتلال إلى ما بعد الشريط الحدودي
استطاعت المقاومة بإمكانياتها الذاتية المتواضعة أن تقهر الجيش (الذي لا يُقهر)، وأن تُربك جميع من كان في الطرف الآخر. وكذلك شهدت قرى ومدن جبل عامل مجازر رهيبة ومعارك دامية واعتقالات ومداهمات، وبالمقابل كانت العمليات الجهادية قائمة ليلاً نهاراً وفي كلّ مكان، وبدون أيّ كلل أو ملل، والمجاهدون غير آبهين بالأخطار.
وأمام صمود مجاهدي المقاومة الإسلامية وضراوة مقاومتهم وتصدّيهم، اتّخذت الحكومة الإسرائيلية في 14 كانون الثاني سنة 1985م قراراً بالانسحاب على مراحل، واستمر المقاومون بتصعيد العمليات العسكرية في كلّ مكان يوجد فيه الصهاينة لتسريع الإنسحاب وكذلك رداً على مجازرهم وإرهابهم، فلم يجد الصهاينة بُدّاً من الهرب، فهرعوا ينسحبون إلى ما يسمّى “بالحزام الأمني” وتحرّرت أكثر مناطق جبل عامل، واستطاعت المقاومة أن تقضي على أسطورة الرعب بنهجها الحسيني، فقوّضت دعائم التفوّق والجيش الذي لا يقهر، وأصبحت قوّة لبنان بشبابه المجاهد المضحّي، وليست “قوة لبنان في ضعفه”.
ختاماً ربما يحمل اجتياح “اسرائيل” للبنان عام 1982 وحصار بيروت، الكثير من المآسي ومن الذكريات المؤلمة والمفجعة، ماديًا وانسانيًا ومعنويًا وسياسيًا، ولكن يبقى لمّا استطاع لبنان بشكل عام والمقاومة بشكلٍ خاص استخلاصه من دروس وعبر، أهمية كبرى، نحتاجها بقوة في هذا الصراع المستمر مع العدو الصهيوني، ما دام يحتل أراضينا ويغتصب مقدساتنا.
المصدر: الوفاق
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال