المعجزة الفلسطينية 26

المعجزة الفلسطينية

الحديث عن انتفاضة فلسطينية ليس من قبيل الفكر الرغائبي، فللمرة الأولى في تاريخ كيان الاحتلال، يدور حديث عن عجز “الجيش” عن السيطرة على الأوضاع في الضفة الغربية.

قبل عام، التقيت فلسطينياً مهجراً من مدينة الرملة. غادر ألفرد قاحوش مدينته بعد دخول العصابات الصهيونية في تموز/يوليو 1948. في الطريق نحو القدس، حاول ألفرد قطف عنب من دالية في كرم لهم، لكن شقيقه منعه بذريعة أن العنب غير ناضج، وأنهم سيقومون بقطفه عند عودتهم بعد أسبوعين أو ثلاثة.

ستون عاماً مرت وألفرد يحيا على أمل العودة إلى ذلك الكرم. لذلك، لم يتردد في الذهاب في رحلة دينية من الأردن إلى فلسطين، وزيارة الرملة، لكنه لم يجد منزله ولا كرم العنب، فقد حلّ مكانهما بناء استيطاني كبير. توفي ألفرد بعد عدة شهور بسبب السرطان، لكن زوجته نهى صبيح، المهجرة من يافا، مصممة أن زوجها مات قهراً بعد أن فقد الحلم بقطف العنب.

قبل أيام، وجدت نفسي أهرب من وسائل التواصل الاجتماعي، في محاولة لتجنب رؤية صورة الطفل ريان سليم، الذي سقط وتوفي في أثناء مطاردة جنود الاحتلال له، في قرية تقوع، شرق بيت لحم. كنت أخشى أن أرى في الصورة نظرة الذعر في عيني الطفل، نظرة تستنزف ما تبقى في روحنا من قدرة على التحمل.

صورة أخرى أعادت إلى روحي التوازن؛ والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن خازم، يسير بين مجموعة من الشباب المقاومين الذين يمتشقون أسلحتهم، لغة الجسد توحي بالثقة في القادم، ونظرة العينين تحمل كل معاني التصميم على الأخذ بثأر الوطن. هؤلاء المقاومون يجتمعون حول رمز للصمود والشهادة فتتراجع الاعتبارات التنظيمية لمصلحة الوحدة على أرض المعركة.

صور عائلتَي شهيدي مخيم الجلزون: باسل البصبوص، وخالد عنبر تقطع نياط القلب. شابان قتلتهم، بدم بارد، عصابة من “الجيش” الصهيوني. جنازات تختلط فيها الهتافات بالزغاريد، بتهديد المحتل وشتائم لأنظمة التطبيع العربية.

وسط هذه الصور، نرى شباب مخيم جنين يحبطون محاولة جديدة لاقتحام المخيم، ويعيدون تحرير مخيمهم كل يوم. في الرملة، التي بقي فيها يوم 14 تموز/يوليو 1948 ما لا يزيد على 400 عربي، يعيش اليوم نحو 30 ألف عربي يشكلون ثلث سكان المدينة، وكان يمكن أن يكونوا أغلبية السكان لولا توطين عدد كبير من يهود الاتحاد السوفياتي الذين هاجروا في تسعينيات القرن الماضي.

بين تلك الصور تكمن المعجزة الفلسطينية. بعد سنوات، اعتقد العدو وعملاؤه خلالها بأن جذوة الانتفاضة الفلسطينية قد خمدت، وأن الفلسطيني وافق على استبدال سلطة صورية لا تملك من أمرها شيئاً بوطنه، وعلم يرفع في المناسبات، وأثواب مطرزة حولتها مؤسسات المجتمع المدني إلى وسيلة للتسول. انتفضت العنقاء الفلسطينية من رمادها، لتصنع انتفاضة جديدة.

رغم إنكار الجميع وتنكرهم لما يحدث في الضفة الغربية، يمتلك الفلسطيني مقومات انتفاضة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فقد تضاعف عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية بين عامي 2021 (87 شهيداً) ليصبح 169 شهيداً خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2022. وتضاعف عدد عمليات المقاومة الفلسطينية عشرات المرات واتخذت منحى أكثر نوعية.

الحديث عن انتفاضة فلسطينية ليس من قبيل الفكر الرغائبي، فللمرة الأولى في تاريخ كيان الاحتلال، يدور حديث عن عجز “الجيش” عن السيطرة على الأوضاع في الضفة الغربية، بل وحتى الحديث عن خطر يحيق بوجود “دولة” الاحتلال نفسها. حتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، تتصاعد أعمال المقاومة، ويزداد عدد الفلسطينيين الذين يأخذون موقفاً عدائياً تجاه “دولة إسرائيل”، بحسب تقارير تقييم الجبهة الداخلية الذي يصدره “الجيش”.

ما يفاقم قلق حكومة العدو، أن التصاعد النوعي لعمليات المقاومة الفلسطينية لم يعد يقتصر على شاب يحاول طعن مستوطن، أو إطلاق النار عليه من مسدس قديم أو مُصنع محلياً. لقد بدأت المقاومة تأخذ شكلاً جماعياً، فالمقاومون يتحركون في مجموعات صغيرة بعيدة عن التنظيمات التقليدية. يظهر هذا العمل الجماعي خلال عمليات المداهمة للمدن والمخيمات الفلسطينية، والذي يصبح عملاً أكثر صعوبة يوماً بعد يوم، خاصة في مخيم جنين. الخطر الثاني يتمثل في أن العمليات الفلسطينية أصبحت أكثر تخطيطاً، وتستهدف إيقاع أكبر عدد من الإصابات بين صفوف المستوطنين الصهاينة، وهو ما نجحت في تحقيقه في معظم الحالات.

يكمن الخطر الأكبر الذي يراه الكيان تهديداً لمستقبله، في تعاظم قوة محور المقاومة وتعاون أطرافه سياسياً وميدانياً. هذه المقاومة التي تفرض شروطها في الشمال، وتضع الحكومة الإسرائيلية في موقف العاجز، تفرض على قوى العدوان السعودي شروطها لقبول وقف إطلاق النار. وتصمد في سوريا منذ 11 عاماً في مواجهة واحدة من أكبر وأقذر حروب الوكالة في التاريخ الحديث، وتثبت قواعد للردع في ما يتعلق بشروط الاشتباك مع قطاع غزة. إن انفتاح هذه الجبهات ووحدتها، كفيلان بدفع الكيان المحتل نحو مصيره المحتوم. حتى أسلحته النووية التي منحته الاطمئنان على مدى تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، لم تعد مفيدة كون “العدو” آتياً من الداخل.

لم يكن كيان الاحتلال، منذ إنشائه، مهدداً بالزوال كما هو اليوم، كل الأطراف تدرك ذلك، والجميع (بما في ذلك أنظمة التطبيع العربية) يبحث لهذا الكيان عن مخرج لأزمته. الكيان يعبّر عن أزمته داخلياً من خلال الفشل المتكرر في تشكيل حكومة. اندفاع المجتمع الصهيوني نحو اليمين المتطرف يعني أن الكيان ينتحر من الداخل، بفقدانه الدعم الشعبي في الدول الرأسمالية. استمرار المقاومة يدفع الأزمة نحو طريق مسدود، فما على المقاومين إلا الإيمان والعمل على أن الممعجزة آتية، والنصر صبر ساعة.

 

عماد الحطبة

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال