لفتت زيارة رئيس الكيان الصهيوني إسحاق هرتسوغ إلى أنقرة، الأربعاء الماضي، والاستقبال الحافل الذي حظي به من قبل الرئيسي التركي رجب طيب أدوغان، انتباه جميع وسائل الإعلام العربية والعالمية، وخصصت الكثير من المواقع الإخبارية صفحات لتقديم قراءة للموقف التركي وكيف تتقلب سياسات أنقرة مع تقلب الأوضاع والمصالح.
قبل عام تماماً، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والعديد من المسؤولين الحكوميين وحزب العدالة والتنمية، يعتبرون الكيان الإسرائيلي كياناً إرهابياً ومجرماً. لكننا كنا الأسبوع الماضي على موعد لزيارة رئيس صهيوني إلى أنقرة مرة أخرى بعد 14 عاماً على الزيارة الأخيرة. حيث وصل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الأربعاء الماضي، إلى العاصمة التركية أنقرة في زيارة رسمية تستغرق يومين.
وكان في استقبال هرتسوغ لدى وصوله إلى مطار أسن بوغا، الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، ومسؤولون آخرون. واستهل هوتسوغ زيارته بالتوجه إلى ضريح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، ومن ثم المجمع الرئاسي للقاء الرئيس رجب طيب أردوغان.(1)
تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو وصورا لموكب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في أنقرة، وأسلوب استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان له في مراسم رسمية بالمجمع الرئاسي، الأربعاء. ولكن بقيت صورة واحدة هي التي شهدت الكثير من التعليقات الساخرة على حملة وخطابات الرئيس التركي على مدار سنوات ضد إسرائيل، وهي صورة رفع العلم التركي جنباً إلى جنب مع العلم الإسرائيلي من قبل خيالة أتراك اصطفوا لتحية الضيف الزائر وتجنبت وسائل الإعلام التركية، نشر فيديو الاستقبال ورفع العلم الإسرائيلي، وتجنبت ظهورهما سويا في الفيديو الإخباري المتداول.
بذل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كل ما بوسعه خلال مراسم استقبال هرتسوغ في قصر بشتيبه الرئاسي في أنقرة، ففي بروتوكول الاستقبال، بالإضافة إلى مشاركة وحدة الفرسان الخاصة وحمل علم الكيان الصهيوني، كان هناك جنود يرتدون الزي التركي الكلاسيكي والتاريخي، وكان كل شيء يشير إلى أن أردوغان يسعى لتحقيق أقصى قدر من إرضاء الضيف، وارسال رسالة إلى العالم مفادها أن تركيا حليف وصديق لا ينفصل عن إسرائيل.(2)
نسف استقبال الرئيس الصهيوني في أنقرة بهذه الحفاوة، كل الخطابات الحماسية لإردوغان ضد الكيان الصهيوني، كما الشعارات الرنانة التي كان ينادي بها إردوغان من أجل تحرير القدس وفلسطين، والتي لطالما أثار بها العواطف وكسب التأييد لدى الشعب التركي، ولدى كل محبي القضية الفلسطينية.
وعقب تلك الحفاوة الكبيرة، قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “هدفنا هو إيجاد أرضية لتنمية العلاقات الودية بين البلدين وشعبي تركيا وإسرائيل. للأسف، شهدت العلاقات بين بلدينا في السنوات الأخيرة فترة من الانقطاع والركود. لكنني أعتقد أن العلاقات بين الدول يتم إعادة النظر فيها من خلال الإجراءات التي تعكس روح الاحترام المتبادل، مما يمكننا من معالجة التحديات الإقليمية والعالمية بشكل أفضل”.
وقال: “يمكن لإسرائيل وتركيا بل ينبغي عليهما الانخراط في تعاون من شأنه التأثير بشكل واضح على هذه المنطقة، التي نسميها جميعًا بيتنا”. وأضاف: “هدفنا إرساء أسس تنمية العلاقات الودية بين بلدَينا وشعبينا”.
بدوره قال أردوغان: “واثق أن الزيارة التاريخية للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ستكون نقطة تحول جديدة في العلاقات بين بلدينا”. وأضاف أن الهدف المشترك لتركيا وإسرائيل هو إعادة إحياء الحوار السياسي بين البلدين على أساس المصالح المشتركة ومراعاة الحساسيات المتبادلة.
وأردف أن “إحلال السلام والرفاهية والمساهمة في إعادة إحياء ثقافة العيش المشترك بالمنطقة هو أمر بيدنا”. ولفت إلى أن تطوير وتعزيز العلاقات التركية الإسرائيلية يتمتع بأهمية كبيرة بالنسبة للبلدين وللسلام والاستقرار الإقليمي.
وأكد على أهمية تعزيز علاقات التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، وخاصة في المجالين الاقتصادي والتجاري. وأوضح أن حجم التجارة سجل زيادة بنسبة 36 بالمئة العام الماضي رغم جائحة كورونا، ليبلغ 8.5 مليار دولار، معربا عن ثقته في زيادة هذا الرقم إلى 10 مليارات في المستقبل.
وأشار إلى أن تركيا على استعداد للتعاون مع إسرائيل في مجال مشاريع الطاقة وأمنها، لافتا إلى قدرات بلاده في إنجاز هذا النوع من المشاريع. ولفت أيضا إلى إمكانية التعاون بين بن البلدين في شتى المجالات، وعلى رأسها السياحة، والعلوم، والتكنولوجيا المتقدمة، والزراعة، والصحة، والصناعات الدفاعية.
وأضاف: “واثق من أن العلاقات التركية الإسرائيلية في الفترة القادمة ستجلب معها فرصا جديدة على صعيد التعاون الإقليمي”. وتابع قائلا: “الزيارة التي سيجريها وزير الطاقة والموارد الطبيعية إلى إسرائيل عقب زيارة وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو إلى فلسطين وإسرائيل تحمل أهمية كبيرة”.(3)
على مدى السنوات العشرين الماضية، أظهر رجب طيب أردوغان باستمرار أنه زعيم وسياسي براغماتي ومنفعي وليس لديه مشكلة في إظهار الاستدارة السياسية والتوجهات السريعة. فمن جهة يصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالقاتل والديكتاتور، ومن جهة أخرى يرسل فريقاً خاصاً لاستئناف العلاقات مع القاهرة في أسرع وقت ممكن، كما يتصرف الشيء ذاته في ملفات أخرى مثل قبرص واليونان.
لذلك لا ينبغي أن نفاجأ بالتحول المفاجئ لأردوغان بشأن إسرائيل. لقد أظهر أنه في مسيرته السياسية يمكنه أن يتخذ مثل هذه الإجراءات ويفاجئ الجميع. لكن على ما يبدو هذه المرة، كانت هناك قضايا أخرى أيضاً، أبرزها:
– توصل فريق أردوغان إلى قناعة مفادها أن التواجد القوي في المتوسط وشمال إفريقيا يتطلب تذليل جميع العقبات التي تعترض علاقات تركيا مع مصر والكيان الصهيوني، لتحقيق هدفين حيويين: الوصول إلى موارد النفط والغاز والتأثير في شمال إفريقيا.
– اتخذ الكيان الصهيوني، في السنوات الثلاث الماضية، إجراءات خبيثة كبيرة في اليونان وقبرص، وهيمن بشكل مؤثر على الصناعات الدفاعية لهاتين الدولتين المهمتين في الاتحاد الأوروبي، وسبب الذعر لتركيا.
– بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل العام الماضي 8 مليارات دولار ، وهو ما كان في صالح تركيا بهامش كبير. لأنها تمكنت من إرسال بضائع بقيمة 6 مليارات دولار إلى الأراضي المحتلة واستيراد ما قيمته 2 مليار دولار من المواد الخام.
– تشير التقديرات إلى أن ما بين 120 و 150 ألف شخص من الأراضي المحتلة سوف يزورون تركيا كسائحين كل عام.
– تأمل حكومة أردوغان في حل بعض مشاكلها مع قبرص واليونان والاتحاد الأوروبي وذلك بمساعدة الكيان الصهيوني.
كما سيزور وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو الأراضي المحتلة قريباً برفقة وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونمز. وليس خافياً أن رئيس جهاز مخابرات التركي هاكان فيدان، سيلعب أيضا دورا مهما في عملية التطبيع وسيكون حاضرا خلال الزيارة.
تظهر هذه الزيارة، وتطبيع علاقات تركيا مع مصر، أنه بالإضافة إلى التعاون في المجالات السياسية والأمنية والاستخباراتية، تراهن تركيا كثيرا على قضية الطاقة وتريد أن تكون المنصة الرئيسية لنقل الغاز من حيفا إلى أوروبا. يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان الإسرائيليين في هذه العملية التأثير أيضاً على علاقات تركيا مع اليونان وقبرص وإنهاء التوترات الحالية أم لا.
ولكن التقارب التركي الإسرائيلي لن يحقق لأنقرة أي مصلحة تراهن عليها. ومثل هذا التقارب سيبقى يخدم الكيان الصهيوني وأهدافه فقط، فالخطوات المتسارعة من تركيا نحو التقارب مع “إسرائيل” تؤكد أن تركيا عادت إلى التعامل مع القضية الفلسطينية وفق النهج ذاته الذي تتعامل به الأنظمة العربية التي طبعت مع الكيان الصهيوني. وهذا ما تجسد عملياً خلال زيارة هرتسوغ وحديث أردوغان عن حل الدولتين.
جواد عيسى
المصادر:
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال