انعدام الثقة وسحب احتياطيات ألمانيا الذهبية من نيويورك
إن احتياطيات ألمانيا من الذهب في نيويورك والتي تُمثل إرثًا هاماً من النظام المالي بعد الحرب العالمية الثانية في ظل الثقة الكبيرة بالقيادة الأمريكية، أصبحت في الوقت الحالي رمزًا للتوترات الجيوسياسية في مرحلة الانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب. ولم تُقوّض تصريحات دونالد ترامب الأخيرة حول إمكانية التدخل في سياسة الاحتياطي الفيدرالي الثقة بدور الاحتياطي الفيدرالي كوصي على الاحتياطيات العالمية فحسب، بل شكّلت أيضًا جرس إنذار بشأن اعتماد أوروبا المالي على البنية التحتية الأمريكية. وتثير هذه التطورات تساؤلات جوهرية حول مستقبل الثقة المالية بين أوروبا والولايات المتحدة وتوازن القوى في النظام الدولي، وقد تُشكّل تحذيرًا للأسواق المالية ومستقبل الاقتصاد العالمي.
تعكس احتياطيات ألمانيا من الذهب البالغة 3,352 طنًا والتي يُحتفظ بثلثها في الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، الترابط بين الاقتصادات الكبرى والبنية التحتية المالية الأمريكية. هذا الترتيب الذي يعود بجذوره إلى الحرب الباردة ويتطلب سيولة سريعة، أصبح مسألة حساسة في ظل عدم الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة.
لقد كان قرار ألمانيا عام ٢٠١٣ ببدء سحب ٣٧٤ طنًا من الذهب من باريس و٣٠٠ طن من نيويورك مؤشرًا مبكرًا على تراجع الثقة في النظام القديم. والآن تثير تصريحات ترامب حول إمكانية التأثير على الاحتياطي الفيدرالي السؤال التالي: هل يمكن أن تصبح احتياطيات ألمانيا من الذهب في نيويورك أداة ضغط جيوسياسي؟ (1) في الواقع أصبح النهج الجديد للولايات المتحدة في التجارة والعلاقات مع حلفائها تحديًا خطيرًا وكبيرًا للدول الصديقة لأمريكا والنظام المالي العالمي. كما أن تخزين احتياطيات الذهب الوطنية في الخارج ينطوي على مخاطر كبيرة، لا سيما في بلد يشهد تطورات سياسية غير متوقعة مثل الولايات المتحدة في عهد ترامب. ويشكل احتمال استخدام هذه الاحتياطيات كورقة ضغط في النزاعات الجيوسياسية مصدر قلق متزايد. وقد أدت سياسات ترامب غير المتوقعة، بما في ذلك هجماته على الاحتياطي الفيدرالي والنزاعات التجارية مع حلفائه، إلى تفاقم المخاوف من ضعف ألمانيا وفقدانها للذهب. هذه التبعية المالية التي كانت في السابق ميزة استراتيجية للوصول السريع إلى الدولار الأمريكي، تُهدد الآن الاستقرار المالي للبلاد. إذ قد يُحوّل عدم الاستقرار السياسي هذه الأصول إلى أدوات لعقود قسرية أو حتى رهائن اقتصاديين، مما يُشكّل تحديًا لاستقرار الثقة المالية الأوروبية الأمريكية.(2)
على الرغم من أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يعمل كمؤسسة مستقلة، إلا أن تعليقات ترامب حول احتمال إقالة رئيسه جيروم باول وانتقاده للسياسة النقدية قد غذّت عدم الاستقرار في قلب النظام المالي الأمريكي. وقد شكّل التناقض بين الدور التقليدي لأمريكا كوصي على احتياطيات العالم وسياسات الرئيس غير المتوقعة تحديًا لثقة حلفاء مثل ألمانيا. (3)
بالإضافة إلى ذلك دفع تراجع النظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة الدول إلى إعادة تعريف استراتيجياتها الاحتياطية. ويؤكد تقرير صادر عن المؤسسات المالية الرائدة في العالم أن "انعدام الثقة في الدولار" يمكن أن يعزز مكانة اليورو كعملة احتياطية بديلة.(4) وتقود ألمانيا ذات التاريخ القوي هذا التحول في استخدام الذهب بنسبة 74% من احتياطياتها من النقد الأجنبي . وتتماشى هذه التغييرات مع توسع مجموعة البريكس و تقليل الاعتماد على الدولار في التجارة بين بلدان الجنوب. وفي هذا السياق فإن سحب الذهب من الاحتياطي الفيدرالي ليس عملا رمزياً، بل خطوة نحو الاستقلال المالي في نظام متعدد الأقطاب.(5)
وعلى الرغم من أن البنك المركزي الألماني قد صرح بأن سحب الذهب "ليس سوى تحسين لوجستي"، إلا أن الأدلة تشير إلى أن الدوافع الجيوسياسية والمخاوف من عدم الاستقرار تلعب دوراً محورياً في هذا القرار. وستتطلب الكمية المقدرة بـ 1236 طناً من الذهب المتبقية في نيويورك - أي ما يعادل 40 ألف سبيكة - عملية أمنية على نطاق عسكري. إن هذه العملية المكلفة والمعقدة لن تُثقل كاهل العلاقات عبر الأطلسي فحسب، بل قد تُطلق موجةً من عمليات التعافي المماثلة من قِبَل دول أخرى وهو ما قد يكون مُكلفًا للولايات المتحدة.
وبالنظر إلى تصريحات ترامب وعدم استقرار السياسة الأمريكية، فقد شكّلتا معًا تحديًا غير مسبوق للنظام المالي القائم على الدولار. بالنسبة لألمانيا وأوروبا يُشكّل استمرار الاعتماد على البنية التحتية المالية الأمريكية خطراً كبيراً بينما تستخدم واشنطن الأدوات الاقتصادية كأسلحة لتعزيز مكانتها. ويمكن أن يُشكّل انتعاش الذهب وإن كان مُكلفًا حجر الزاوية لبناء نظام مالي أوروبي مُستقل، نظام لا يعمل فيه اليورو كمُنافس للدولار بل كركيزة لنظام جديد يعكس الطبيعة المُتعددة الأقطاب للهيكل المالي العالمي.
وفي نهاية المطاف تُظهر هذه التطورات أن أوروبا ليس لديها خيار سوى تقليل اعتمادها على أمريكا وإعادة تعريف دورها كفاعل مُستقل للبقاء في النظام الدولي المُتغير. لقد تحوّل الذهب الألماني في نيويورك من رمزٍ للتعاون إلى دلالةٍ على انقسامٍ جيوسياسي وهو انقسامٌ لا يُمكن سدّه إلا بتعزيز الوحدة الأوروبية والاعتماد على الذات.
أمين مهدوي
1- https://www.reuters.com/business/finance/trump-spurs-questions-about-safety-germanys-gold-new-york-2025-05-30/
2- https://discoveryalert.com.au/news/germany-gold-repatriation-plan-holdings-2025/
3-https://www.reuters.com/world/us/trump-says-fed-chair-powells-termination-cant-come-fast-enough-2025-04-17/
4-https://think.ing.com/reports/unipolar-disorder-how-the-euro-can-benefit-from-dollar-disillusionment-report/
5-https://credendo.com/en/knowledge-hub/world-new-multipolar-order-making-broad-impact
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال