من الأخطاء الشائعة التي يتم تداولها بكثرة هذه الأيام، هي أن هناك انتصارا لولي العهد السعودي محمد بن سلمان على إدارة بايدن، وأن ابن سلمان استطاع فرض إرادته واستخدم أوراق القوة السعودية بحنكة، كي يمرر جريمته ويفرض إرادته، وبالتالي فإن زيارة بايدن المزمعة للسعودية هي بمثابة فرض للإرادة السعودية.وهذا الأمر بحاجة لمناقشة معمقة تنظر في البواطن لا الظواهر، وتنظر في الإجراءات العملية لا التصريحات الدعائية.
وأهمية هذه المناقشة تأتي من أهمية التداعيات المترتبة عليها، والسيناريوهات المتوقعة، فنجاح ولي العهد في فرض إرادته يترتب عليها سيناريوهات، غير السيناريوهات المترتبة على نجاح أمريكا في الاحتفاظ بهيمنتها والاحتفاظ بعميلتها الخليجية الأولى وهي السعودية.
وهنا من المناسب أن نبدأ بما قاله النائب الديمقراطي “توم مالينوفسكي”، حيث اعترف بأن الولايات المتّحدة لديها “هدف واحد مهيمن اليوم أكثر أهمية من أي شيء آخر، وهو التغلّب على بوتين”.
ومالينوفسكي الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية للديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل في عهد الرئيس باراك أوباما، والرافع لشعارات الديمقراطية الأمريكية، ينزع هنا قناعه الديمقراطي ويكشف عن الوجه الأمريكي الحقيقي بالقول: “بالنّسبة لي، لا يتعلّق الأمر بحقوق الإنسان مقابل الأمن القومي أو النّفط مُقابل خاشقجي، بل يتعلّق بأفضل طريقة يمكن للولايات المتّحدة أن تضمن أنّ الدول العميلة لنا تقف إلى جانبنا في هذا السباق الحاسم وتؤدي دورها في ضمان فشل بوتين”.
أي أن الظرف الدولي ومعركة أمريكا وروسيا والصين على النظام العالمي وتوازناته، هي التي عجلت بزيارة بايدن كي يلملم الشاردين عن القطيع وليس المتمردين، وكي يركز الملفات المتناثرة في ملف واحد هو الانتصار على بوتين، وبالتالي تسوية الملفات والقضايا التي تعطل ذلك أو تكسب روسيا أوراقا للانتصار يأتي الوقت والرهان عليه على رأسها، حيث بدا الوضع ضاغطًا على إدارة بايدن ويكاد يعصف بها شخصيًا وبحظوظها الانتخابية في استحقاق للتجديد النصفي في نوفمبر القادم، على إثر الأوضاع الاقتصادية المتأزمة بسبب أسعار الطاقة.
ولكن هل هذا يعني أن ابن سلمان أجاد اللعب على التناقض الدولي؟
لا يمكن الإجابة بنعم، فقد رصد السياسيون الأمريكيون المبررون لزيارة بايدن، ونكوصه عن تنفيذ وعده الانتخابي بعزل السعودية وولي عهدها، أن ابن سلمان قد استجاب لشروط السعودية ونفذ التزامات مفصلية وأهمها وقف حصار قطر، والتهدئة مع اليمن ووقف الهجمات، وفتح حوار مع ايران خدمة لجهود التفاوض على الملف النووي، وتعميق الاتصالات مع “اسرائيل” بشكل هادئ.
وبالتالي فلا مجال للحديث عن تمرد أو تحديات سعودية للإدارة الأمريكية، بل ويمكن رصد شواهد أكثر عمقًا لم يعلنها المسؤولون الأمريكيون:
أولًا: ملف تيران وصنافير، ونقله من السيادة المصرية للسعودية، لا يتم الا بضوء أخضر أمريكي وموافقة إسرائيلية، ولا يصدر هذا الضوء الأخضر إلا باطمئنان أمريكي وإسرائيلي تام للسعودية، فلا مجال للمغامرة بشيء يتعلق بمصالح العدو الصهيوني.
كما ترفض السعودية وجود مراقبين دوليين استمرارًا لشروط كامب ديفيد، وهو ما يعني فتح الباب لتوقيع صفقة منفصلة مباشرة بينها وبين العدو كمقدمة للتطبيع.
ثانيًا: لم تقدم السعودية على أي خطوة جوهرية في تعميق علاقاتها بروسيا، وكل ما فعلته هو إجراءات شكلية وصفقات قشرية لا تصل لأدنى عمق يتعلق بالتحالف أو خدش العلاقات السعودية الأمريكية استراتيجيًا. كل ما قامت به السعودية تلويحات ووعود زائفة، فقد تصدرت السعودية 2021 قائمة أكبر الدول المستوردة للأسلحة بمعدل استيراد خمس المبيعات الأمريكية أي حوالي 12 % من إجمالي واردات الأسلحة العالمية. والسعودية لم تقدم على شراء أسلحة استراتيجية روسية، ويرصد تقرير روسي لوكالة “سبوتنيك” هذه المفارقات، حيث يقول إن السعودية كشفت بشكل متكرر احتمال شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي “إس- 400” تريومف. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في صيف 2019، أعلن عن دعمه للسعودية وقال: “نحن على استعداد لمساعدة المملكة العربية السعودية في حماية شعبها”، لكن يبدو أن القيد الوحيد على صفقة استيراد “إس- 400” التي لم يتم توقيعها هو مخاوف السعودية من انتقام أمريكي وشيك في شكل عقوبات وتخفيضات في إنفاق المساعدات الخارجية.
كذلك طائرة “سوخوي سو 35″، وهي واحدة من أفضل منصات التفوق الجوي في روسيا ومن بين أنجح المقاتلات المصدرة عالميًا، قد جرى تفاوض بين البلدين عام 2017، بشأن عقد استيراد يشمل ما بين 12 إلى 18 طائرة من طراز “سوخوي سو 35″، لكن من غير المعروف إلى أين سارت هذه المفاوضات منذ ذلك الحين، كما هو الحال مع نظام “إس- 400″، لأنه من المحتمل أن تواجه السعودية معارضة شديدة من واشنطن وفرض عقوبات عليها.
وبالتالي فإن ما فعله ابن سلمان لم يكن إلا مناورات قشرية للتعجيل باعتراف بايدن به ملكا للسعودية وعدم عرقلة ملف توريثه.
وهنا فإن زيارة بايدن هي افتتاح مرحلة الاعتراف به ملكًا جديدًا، ولتوفير الحرج على بايدن، كانت زيارة ابن سلمان المكوكية، لمصر والأردن وتركيا، وهي تحقق عدة أهداف:
1- على مستوى مصر والأردن، تأكيد الاعتراف والمباركة من أطراف جوهر صفقة تيران وصنافير المتعلق بترتيبات الأمن في مضيق تيران وخليج العقبة، والتنسيق المزمع تدشينه في البحر الأحمر مع زيارة بايدن، ناهيك عن تصفية الأجواء مع ملك الأردن عقب ما شاع عن تورط ابن سلمان في محاولة الانقلاب عليه وطمعه في نزع الوصاية الهاشمية عن القدس.
2- على مستوى تركيا، الحصول على صك البراءة من الدولة المعنية الأولى بقضية خاشقجي والتي حدثت الجريمة على أرضها، وصك الغفران من اردوغان الذي أقام الدنيا ولم يقعدها على تورط ولي العهد بالقضية.
إن المراد هو إعادة الزمن وعجلة التاريخ للوراء، بتسليم قيادة المنطقة للسعودية شكلا وللعدو الاسرائيلي جوهرا، وهي مقاربة قد تكون قابلة للتحقق بلحاظ تراجع القوى العربية الكبرى، ولكنها غير قابلة للتحقق لوجود محور المقاومة، وليجرب المجربون عبثا.
إيهاب شوقي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال