كالعادة، وفي أعقاب أي انتصار أو انجاز يسجله لبنان على الكيان الاسرائيلي المؤقت بفضل المقاومة، ويسترد من خلاله حقوقه ويثبت سيادته واستقلاله، تبدأ حفلات المزايدة والتشكيك والتوهين والنقد والإنكار لما تحقق، كما هو الحال في قضية الترسيم البحري التي تحول معها قسم كبير من اللبنانيين (سياسيين وأحزابا واعلاميين ومجتمعا مدنيا) الى فقهاء في قانون البحار، وخبراء نفطيين، وجيولوجيين واستراتيجيين وجيوبوليتيكيين وحتى عسكريين.
وبعيدًا عن نظريات التخوين، ومع تسليمنا بالنية الطيبة لهؤلاء المشككين والرافضين ـ أيًا كانت مشاربهم وانتماءاتهم ـ لنقارب المسألة بلغة العقل والعلم، والشواهد التاريخية، وكيفية تعاطي الكيان الاسرائيلي نفسه، مع قضاياه التي يعتبرها مسلمات أمنية أو “حقوقًا سيادية” (لا جدال ان الكيان كله غير شرعي ومغتصب)، ومدى الدعم والحرص الأمريكي على كل ما هو لصالح “تل أبيب” ومصالحها وصورتها وأمنها بالدرجة الأولى.
وانطلاقًا من هذه النقطة، نسأل هؤلاء: هل سبق وأن تنازلت “اسرائيل” طوعًا عن قطعة أرض أو مساحة في البرّ أو البحر اغتصبتها أو استولت عليها سابقًا بالقوة العسكرية؟ ومنذ متى تقدّم أمريكا مصالح لبنان على المصالح الاسرائيلية؟ وهل يريد المعترضون والرافضون، اقناعنا مثلًا أن “اسرائيل” قد فرّطت يومًا ما، بما يسمى حقوقها (المغتصبة) كرمى لعيون أي دولة عربية مثلًا؟ أو أنها وقعت في غرام اللبنانيين، لذا تنازلت لهم طوعًا وحبًا عما تدعي أنها ثرواتها؟
هنا، لنستعن بالشواهد التاريخية:
من المعروف أن مؤسسي الكيان كانوا قد خططوا منذ قرون ليصل إلى ما هو عليه من قوة وقدرات وجبروت، ويتميز بالمكر والخبث، وعند دخوله في اية مفاوضات يستنفر جميع خبراء الكون وعلمائه، ويسخّر كل تكنولوجيا اوروبا وأمريكا وآسيا بغية عدم التفريط بمتر واحد من المساحات البرية او البحرية التي اغتصبها بالقوة (وقد حصل ذلك مع المصريين والاردنيين أو السلطة الفلسطينية).
وعليه هل يريد هذا القسم المعترض من اللبنانيين افهامنا أن “اسرائيل” قد غررّ بها، أو أنها لا تعي صالحها، أو لا تملك الخبرات والإمكانيات والتقنيات التفاوضية، أو أنها أرسلت للتفاوض حفنة من السذّج والمغفلين والأغبياء، حتى حقق لبنان ما حققه؟
وهل نتجاهل كل هذا الصراخ والغضب الاسرائيلي من النتيجة التي آلت اليها معركة تعيين الحدود، التي عُدّت برأيهم انتصارًا لحزب الله، خصوصًا، وأن على الجانبين الصهيوني والأميركي (وبغض النظر عن الاستثمار الانتخابي للصفقة من قبل بعض القيادات الصهيونية) هناك مؤثرين وفاعلين وسياسيين ودبلوماسيين وأكاديميين ومراكز دراسات، ينتحبون ايضًا، ويلطمون وجوههم ليل نهار، بسبب الانكسار الاسرائيلي أمام حزب الله، ويذهبون الى حد وصف النتيجة بالهزيمة المدوية.
ومع ذلك، ولاضفاء المزيد من الواقعية على كلامنا، سنكتفي باستعراض رؤية بعض مراكز الأبحاث والدبلوماسيين الأمريكيين، وتوصيفهم لنتيجة الترسيم للدلالة على أن لبنان تمكن من انتزاع حقوقه بقوة المقاومة التي راهن عليها لبنان، حيث كان سلاحها، خصوصًا المسيّرات الحاضر الرئيسي على طاولة المفاوضات، باعتراف الأمريكيين والقادة الصهاينة أنفسهم، كما سنرى أدناه.
فلنبدأ بوكالة الأخبار اليهودية في امريكا (التابعة للوبي الصهيوني) التي تغطي “إسرائيل والعالم اليهودي”.
يلخص الموقع المذكور وقائع سنوات من المفاوضات، بإشارته الى “مطالبة لبنان بـ 854 كيلومترًا مربعًا من مياه البحر الأبيض المتوسط التي “تخص “إسرائيل” رسميًا”، بحيث إن المطلب اللبناني، شمل سيطرة كاملة على حقل قانا الهائل للغاز الطبيعي، والذي يمتد جزء كبير منه إلى “المياه الإسرائيلية”” حسب تعبيره.
ويؤكد الموقع أن “فريدريك هوف، الذي شغل في ذلك الوقت منصب مسؤول إدارة أوباما لمنطقة شرق البحر المتوسط، عرض صفقة حل وسط كانت ستمنح حوالي 55 بالمائة من المساحة للبنان، وتترك 45 بالمائة تحت “السيادة الإسرائيلية”. غير أن لبنان رفض الصفقة استجابة لطلب الحزب، وظلت المفاوضات هناك، بشكل أو بآخر، حتى تموز الماضي 2022″ على حد قوله.
ويتطرق الموقع الى اهتمام “اسرائيل” بتطوير حقل كاريش للغاز، وتهديدات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وإرساله أربع طائرات من دون طيار، اعترضها جيش العدو الإسرائيلي.
ويؤكد الموقع أنه “بعد أيام فقط من هجمات حزب الله بطائرات بدون طيار على كاريش، زاد بايدن الضغط الأمريكي على “إسرائيل” لإبرام “صفقة مع لبنان”، واستسلمت حكومة لبيد – غانتس ما أجبر الجيش الإسرائيلي على دعم الصفقة، وبالتالي الموافقة على التخلي عن مائة بالمائة من المياه المتنازع عليها”.
ولعل الجانب الأكثر أهمية في “الصفقة” بحسب الموقع هو أنها لا تلزم لبنان. ويختم الموقع المذكور بالقول “في مقابل 854 كيلومترًا مربعًا من “المياه الإسرائيلية السيادية”، يعتقدون أن حزب الله سيسمح لنا باستغلال مواردنا الطبيعية – على الأقل حتى يقرر نصر الله تجديد تهديداته ومطالبه”.
كيف تنظر مراكز الدراسات الأمريكية لنتيجة الترسيم؟ لنتابع “معهد أمريكان إنتربرايز”.
اعتبر المعهد أن “بايدن قدم هدية لحزب الله”، مشيرًا الى أن “هذا الاتفاق لا يترك لـ”إسرائيل” شيئًا تقريبًا. فبدلًا من دفع السلام قدمًا، فإن جهود إدارة بايدن تعيقه”. فلبنان يرفض الآن منطقة أمنية بحرية، ويرفض حضور حفل توقيع مع الإسرائيليين، فيما يحتفل حزب الله بإذلال “إسرائيل” في سعيه للتدخل في صناعة النفط”.
على الضفة المقابلة، قال ديفيد فريدمان السفير الأمريكي السابق لدى “إسرائيل”، أثناء انتقاده لوثيقة تعيين الحدود البحرية: “لقد أمضينا سنوات نحاول التوسط في صفقة بين “إسرائيل” ولبنان بشأن حقول الغاز البحرية المتنازع عليها. اقتربنا بشدة من الانقسامات المقترحة بين 55-60 بالمائة للبنان، مقابل 45-40 بالمائة لـ”إسرائيل”. لكن لم يتخيل أحد أن تنتهي بـ 100 بالمائة للبنان، وصفر بالمائة لإسرائيل”. وأضاف: “أود أن أفهم كيف وصلنا إلى هنا”.
في وقت لاحق، وردًا على تغريدة للصحافي الإسرائيلي باراك رافيد الذي كان يدافع عن طريقة تعامل الحكومة الإسرائيلية الحالية مع المفاوضات، قال فريدمان: “فيما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها، أفهم أن لبنان يحصل على كل شيء”.
وليس بعيدا عن ذلك، غرد السناتور تيد كروز (جمهوري عن ولاية تكساس) قائلاً: “إنني منزعج للغاية من قيام مسؤولي بايدن بالضغط على حلفائنا الإسرائيليين لتسليم أراضيهم إلى جماعة حزب الله الإرهابية التي تسيطر عليها إيران”. وأشار كروز إلى أن الصفقة هي “موضوع آخر للكونغرس الجمهوري القادم للتحقيق فيه”.
في المحصلة، في لبنان ثمة من يصرّ وبخلاف المنطق على انكار فضل المقاومة، بينما “اسرائيل” تتخبط فيما بينها بسبب الصفقة، ويعتبر بعض قادتها بأن موافقتها المبدئية على “التنازلات الإقليمية”، بمثابة سمّ سياسي.
وهنا نقول، لكل معترض ورافض ومزايد: حدود لبنان البحرية والبرية مفتوحة، وها هي كاريش و”اسرائيل” أمامكم، فاذهبوا ونحن وراءكم، أظهروا لنا بطولاتكم الفعلية الميدانية، وليس الافتراضية التي تمارسونها على شاشات الهواتف والفضائيات وصفحات الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي.
لا أحد سيمنعكم من أن تتوجهوا الى الناقورة، وتعمدوا الى استرداد المساحة التي تقولون إن لبنان (وتحديدا حزب الله) تخلى عنها، بالقوة ـ ولا يساورنا الشك ان المقاومة ستمدكم بكافة أشكال السلاح، من المسدس الى الصاروخ، ان طلبتم ذلك ـ أو حتى برفع الأعلام اللبنانية أو التغريدات التويترية أو المنشورات الفايسبوكية.
بدورنا سننصب لكم التماثيل في كل منطقة لبنانية، ونرفعكم على أكتافنا حينها احتفاء بانجازاتكم لو فعلتم. لكن من فضلكم غادروا مربع الكلام والصراخ والاتهمات، نحن ننتظر بفارغ الصبر أفعالكم.
د. علي دربج – باحث ومحاضر جامعي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال