في البدء لا بد من القول إن مشروعاً كبيراً بحجم استعادة فلسطين، لتصبح لفلسطينييها، هو أمر لا يندرج في سياق «زراعة الأوهام» كما جهدت آلة الدعاية الصهيونية على تصويره، بل ساعدتها في ذلك نظيرة عربية لها احتوت من الأقلام والحناجر ما أكسب «الزوبعة» طابعاً أشبه بالإعصار، أقله لدى شرائح وازنة من الشارع العربي الذي اهتزت الصورة لديه بما يكفي لتبني قناعات راح يطلق عليها مسميات عدة من نوع «الواقعية» قبيل أن يصل الفعل إلى واحدة، كانت قد راجت مؤخرا، أطلق عليها اسم «البراغماتية» التي تعني قياس الأمور بالنتائج المستحصلة جراء القيام بها.
لكن مشروعاً طموحاً ومشروعاً، كهذا المشروع، يجب أن يقوم بالضرورة على تناغم تام ما بين عامليه الذاتي والموضوعي، بمعنى أن تقوم إستراتيجيته العليا على تجيير الموضوعي (الخارجي) ليصبح في خدمة الذاتي (الداخلي)، وفي الحد الأدنى ألا يكون الأخير خادماً للأول أو مرتهناً له بدرجة تصبح فيها السياسات الناجمة عنه أشبه بفعل التكيف مع الأحداث الجارية في المحيطين الأقرب فالأبعد، وعليه فإن عملية «الهدم» وتفكيك البنيان تصبح عملية معاكسة لعمليات «البناء» التي اعتمدها العامل «الموضوعي- الخارجي»، والتي قادت إلى ظهور هذا «اللوثان» الذي ما انفك يدمي كياناتنا حتى بات الفعل معتادا بدرجة تشبه الإدمان.
قامت «دولة» إسرائيل على «عضائد» ثلاث، أولاها اصطناع موروث تاريخي ديني هدفه تأمين لاصق أيديولوجي لمكونات من الصعب إيجاد لواصق لها، ولا يهم هنا إذا ما كان ذلك الموروث صحيحاً أم لا، طالما أن الفعل كان قد أفضى، من حيث النتيجة، إلى تبني الشرائح المستهدفة لذلك الموروث، وثانيتهما تجيير الأحداث الجارية وجعلها في خدمة المشروع، وفي هذا السياق سنشهد نجاحاً سياسياً للقيمين عليه في إيجاد تلاقيات مع العديد من القوى الدولية التي راحت تنظر إلى ذلك المشروع على أنه «ضرورة» تصب في خدمة مصالحها في المنطقة التي راحت تتزايد منذ مطلع القرن العشرين، أما ثالثتهما فكانت في الذهاب نحو تثبيت «الجنين» بعد نجاح عملية «التعشيش»، الأمر الذي اقتضى التنقل من حضن إلى آخر، ومن ضفة إلى أخرى، تبعا للتحولات الجارية في موازين القوى العالمية حيث سيشكل استبدال المظلة البريطانية، التي كانت ضامنة لقيام الكيان، بنظيرتها الأميركية بدءاً من العام 1964 ذروة العملية سابقة الذكر، دون أن يعني أنها كانت الوحيدة في ذلك السياق.
كانت عملية التمكين آنفة الذكر تقوم على محاور ثلاثة، أولها داخلي يجهد في تمزيق النسيج الوطني الفلسطيني ومحاولة فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة بغرض خلق واقع يقول باستحالة اندماج الاثنين تبعاً لدرجة التطور الاقتصادي المتفاوتة فيما بينهما، وكذلك لاختلاف السطح السياسي والثقافي الذي يفرضه التفاوت الأول، ولربما نظرت تل أبيب إلى إطلاق «صفقة القرن» زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على أنها الذروة في نجاح الإستراتيجية سابقة الذكر، وثانيها خارجي قريب يجهد في خلق تلاقيات سياسية – اقتصادية – ثقافية في المحيط ثم العمل على قولبتها بشكل تصبح فيه أشبه بجدر استنادية للكيان الذي ظل حبيس عقدة «الرعب» الإستراتيجي التي لا تغيب أبداً عن حساباته القصيرة المدى وكذا البعيدة منها، أما ثالثها الخارجي البعيد، أو الدولي، فهو يقوم على لحظ دقيق للتغيرات الحاصلة في موازين القوى الدولية وبناء السياسات العليا في ضوء الانزياحات التي تشهدها تلك الموازين.
على امتداد سبعة عقود ونصف العقد يمكن لحظ أن صانع القرار الإسرائيلي نجح في خلق تناغم واضح فيما بين محاور التمكين سابقة الذكر التي اعتمدها، ولربما كان جزءاً من ذلك النجاح قد برز في المشهد بفعل عوامل لم تكن من صنع يدي ذلك الصانع، ما يمكن تصنيفه بـ«الظروف الخادمة» التي تعزز من فرص النجاح، لكن جزءاً كبيراً من تلك المعطيات راحت تشهد انقلاباً كبيراً، أقله في محوريها الأول والثالث، منذ مطلع العام الحالي، وتحديداً منذ بدء الحرب الأوكرانية التي تعد بتغيرات كبرى في ميزان القوى العالمي، ثم تعمقت مطلع شهر رمضان الجاري عبر التطورات التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من أن التوقيت، أي شهر رمضان، يطرح إشكالية مهمة تقتضي إيجاد حلول لها، فعلى الرغم من أن استحضار الموروث الديني والتاريخي في إدارة صراع معقد كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هو أمر إيجابي وفاعل، لكن حصر الفعل في ذلك الاستحضار أمر له سلبياته أيضاً، ثم إن الاستناد إليه كلياً قد يلعب فعلاً دور السيف ذي الحدين.
في المحور الأول يمكن القول إن التحولات الجارية في الضفة الغربية والقدس قد تفضي إلى عصيان يطول حتى أجهزة السلطة الفلسطينية، وهذا سيفقد الأخيرة، ومعها كل «التفاهمات» التي جاء بها «أوسلو» ذائع الصيت، القدرة على الضبط ومعها مشروعية الاثنين، والفعل إذا ما حدث، فإنه سيحيل الضفة الغربية إلى كرة من النار يصعب التعامل معها، ولهذا أهمية استثنائية تفوق نظيرتها في غزة التي كانت نارها تضطرم، في غالب الأحيان، تبعاً للتجاذبات الإقليمية وحالة الاستقطاب السائدة، دون أن يعني ذلك تقليلاً من أهمية هذا الفعل الأخير الذي يمكن فهمه، بدرجة ما، على أنه فعل هو أقرب لوضع «الخارجي» في خدمة «الداخلي».
وفي المحور الثالث، الذي نقصد به الدولي، فإن الملامح التي تبشر بها الحرب الأوكرانية تشي بأن هذي الأخيرة هي أشبه بتمرين للصراع الأميركي الصيني الذي بدأت نيرانه بالظهور تباعاً، والأهم لنا هنا في الحالة الفلسطينية هو تلك التراصفات الإقليمية، وفي الذروة منها دول الخليج، التي راحت تبدي استعداداً، خجولاً راهناً، تجاه استبدال القطب الأميركي بنظيره الصيني الآخذ بالتبلور، وفي المسعى الأميركي لمنع العملية السابقة يمكن التنبؤ بأن الحصار البحري الذي ستفرضه واشنطن وحلفاؤها على بكين، الذي كان المرمى الأبعد لتحالف «أوكوس»، من أجل قطع طرق التجارة، وطرق الطاقة أيضاً، عليها سوف يدفع بالمنطقة برمتها، بما فيها فلسطين المحتلة، لأن تصبح ساحة للصراع مما لا يحتمله «جيوبولتيك» دولة الاحتلال، وهو سيكون أثقل بفعل دخول التحالف الأميركي الإسرائيلي مرحلة تصبح فيها تلك «الدولة» عبئاً أكثر منها ذات فائدة، مع التذكير بأن الحالة السابقة كانت قد شهدت محطات بارزة بدأت في تموز 2006، ثم تنامت في حروب غزة الست ما بين 2008 و 2021 التي أظهر الكيان فيها كسلاً وظيفياً من النوع العضوي.
المحور الثاني سيكون تحصيل حاصل، ومفاعيله ستكون مرتبطة بدرجة كبيرة مع المحورين الأول والثالث.
تهشم «بيت العنكبوت» اليوم بات أقرب من أي وقت مضى لأن يصبح فعلاً مشروعاً، حتى وإن كانت المشاهد القريبة توحي بعكس ذلك.
المصدر: الوطن
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال