كلمتان تكررتا كثيراً في الأيام الماضية: "درع" و"ردع" وكل منهما تتشكل من ثلاثة أحرف مشتركة يختلف ترتيب الحرفين الأولين في كل كلمة، لكن يبدو ثمة علاقة تربط بين المصطلحين. فعندما يكون الدرع هشاً ولا يقي من الضربات الجوابية، فالأمر الطبيعي ألا يكون هناك ردع يُطْمَأنُّ إليه، وعندما تكون القدرة متدنية على تحمل تداعيات المواجهة المفتوحة في ظل تشظي الداخل الإسرائيلي وانقسام مكوناته اللا متجانسة، وفقدان الأمل بالقدرة على الاستمرار في مواجهة التحديات الوجودية المتزايدة كماً ونوعاً فمن الحتمي أن يقتنع أولئك بأن الردع الذي يتغنى به حكام "تل أبيب" أصبح من الماضي، وتجاوز مراحل متقدمة في التآكل، فالدرع مخروق والردع محروق، ورد الصفعة بالصفعة الأشد إيلاماً أمرٌ محسوم، وقرار متخذ ومتفق عليه ولا رجعة عنه، وما على جموع المستوطنين إلا انتظار قدرهم المحتوم الذي يتخوفون منه، وهم يرون بأم العين أن ازدياد عدوانية حكام "تل أبيب" تزيد محور المقاومة يقيناً باستحالة جنوح أولئك القتلة المجرمين لسلام حقيقي، وهذا يتطلب مضاعفة الدعم بكل ما يمكن للفلسطينيين ليكونوا أكثر قدرة على الدفاع المشروع عن حقهم في حياة حرة كريمة، وأشد تمسكاً بحقوقهم وصلابة في الدفاع عن وجودهم حاضراً ومستقبلاً بعيداً عن عسف المحتل وظلمه وجوره وإجرامه المتكرر والمتناقض مع كل ما له علاقة بالإنسانية والقانون الدولي وقيمه وأعرافه، ومواجهة الوحشية الإسرائيلية بكل السبل الممكنة، وإلزام أصحاب الرؤوس الحامية على إعادة حساباتهم أكثر من مرة قبل الإقدام على ما قد يعجزون عن التحكم بتداعياته المحتملة التي قد تؤدي إلى تحول تخوفهم إلى يقين.
فالخشية من عدم تجاوز الذكرى الثمانين لكيانهم الغاصب تسيطر على العقل الجمعي الإسرائيلي بمسؤوليه وزعاماته ومستوطنيه، وعلى الضفة الأخرى يظهر الفلسطينيون المتجذرون بأرضهم، والمؤمنون بحقهم في الدفاع عن حاضرهم ومستقبل أجيالهم بإرادة صلبة واستعدد دائم لتقديم التضحيات، وتحمل كل تبعات الحروب المفروضة التي عجزت عن مصادرة الإرادة الفلسطينية أو ترويضها رغم كل التحديات والتهديدات والمغريات بآن معاً.
تداعيات معركة "ثأر الأحرار" على الوعي الجمعي الإسرائيلي:
منذ لحظة الإعلان عن اغتيال الشهداء الثلاثة من حركة الجهاد الإسلامي بتاريخ 9/5/2023م. والكيان الإسرائيلي بكل مكوناته يعيش القلق والتوتر والخوف من المجهول، وهذا بحد ذاته يشكل خطوة متقدمة في اختراق الوعي المجتمعي المضطرب والمشوش، فالجميع على يقين أن الرد آتً ومؤلم، وجاء تطور الأحداث ليتثبت صحة ذلك، وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة التي قد تساعد على تشكيل صورة واضحة ومفهومة، ومنها:
- اغتيال قادةٍ مقاومين مؤلم وخسارة كبيرة، لكنه لا يعيد القدرة المفقودة على الردع، ولا يوهن عزيمة الفلسطينيين، بل يمنحهم زخماً إضافياً للثأر لأولئك الأبطال الأحرار، وفي ضوء هذا حملت عملية رد الجهاد الإسلامي هذا الاسم، وكانت على قدر التحدي.
- ثبت عملياً أن الأكف المباركة التي تمسك بدفة قيادة الفصائل المقاومة من جديد كفوءة، وقادرة على إكمال المهمة المقدسة بجدارة ومهارة ويقين بالنصر الحتمي، والبرهان الأسطع على صحة هذا القول يتبلور في أن القادة الجدد الذين خلفوا القادة الشهداء هم من أدار معركة ثأر الأحرار من البداية حتى خواتيمها المشرفة.
- المتابع للإعلام الإسرائيلي لا يجد صعوبة في رؤية الهلع الداخلي المتحكم بالمستوطنين، وقد وصل مرحلة "كيّ الوعي"، و ظهر هذا بوضوح في المقاطع المصورة التي عكست مستوى الهلع والرعب المسيطر على المستوطنين جميعاً، فضلاً عما أكده سكان المستوطنات، وبخاصة الجنوبية منها أن الحياة لم تعد تطاق والبقاء في أماكن السكن شكل من أشكال الانتحار.
- على الضفة الأخرى كان أهالي الشهداء في غزة يودعون شهداءهم بروح معنوية عالية مجددين العهد على إكمال المسيرة مهما بلغت التضحيات، وبالتالي يجد المتابع الموضوعي نفسه أمام مشهدين متناقضين: بكاء وعويل وهلع إسرائيلي، يقابله ثبات نفسي وصمود إرادي ومعنوي فلسطيني فوق التصور، وستحفر هذه الثنائية لدلالاتها عميقاً في الوعي الجمعي عند المستوطنين، كما ستترك آثارها على طرائق تفكيرهم وسلوكياتهم بشكل مباشر وغير مبشر.
- تعطل دورة الحياة اليومية وإرغام حوالي مليوني مستوطن على البقاء في الملاجئ وبالقرب من الأماكن المحصنة، وامتناع مئات آلاف الطلاب من الذهاب إلى المدارس، وتعطل الحركة في عدد من المطارات، وخلو الشوارع حتى في "تل أبيب" من المارة و.. و.. الخ كل هذا يؤكد الاختراق العميق للوعي الجمعي الإسرائيلي الذي غدا مسكوناً بهاجس مواجهة الموت في أية لحظة وأي مكان.
- الوصول إلى هذا المستوى من الرعب يؤكد أمرين متناقضين: الأول حتمية الرد الفلسطيني على الاعتداءات والجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال، والأمر الآخر اليقين بعجز ترسانة أحدث الأسلحة عن منع تساقط الصواريخ الفلسطينية في العمق الذي يحدده المقاومون الذين يطلقون هذه الصواريخ.
- تحول صوت صافرات الإنذار إلى فوبيا تشل الداخل الإسرائيلي وتسيطر على طريقة تفكيره، وقد نمت وتضاعفت أعداد طالبي الرعاية النفسية مئات الأضعاف، وكل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد مقدمة ومؤشر على الوضع الأخطر المتوقع أن تحدثه أية حرب كبرى يجد الكيان الغاصب ذاته طرفاً فيها جراء عدوانية حكامه الذين لا يفهمون إلا بلغة الدم والقتل والخراب والتدمير، ومجرد توقع هكذا مفرز حتمي لأية حرب قادمة، فهذا يعني ارتفاع نسبة الهزيمة شبه الحتمية، لأن الحرب بالتعريف مكاسرة إرادات، وعندما تكون الإرادة مسكونة بفوبيا مركبة فنتيجة الحرب تعد محسومة سلفاً.
- كي الوعي المجتمعي لم يقتصر على المستوطنين العاديين، بل شمل الجميع، بما في ذلك النسق الأول من المسؤولين الأمنيين والعسكريين الذين نصحوا الحكومة منذ يوم الخميس أي بعد أقل من يومين بالسعي لوقف إطلاق النار.
- ذروة "كيّ الوعي المجتمعي المعادي" ظهرت بوضوح وجلاء في الإعلام الإسرائيلي، عندما نقل ما أكده "رئيس مجلس الأمن القومي في الكيان "تساحي هنغبي" يوم الأربعاء أي بعد أقل من يوم على بدء الرد لفلسطيني، أن لا مصلحة لـ"إسرائيل" في مواصلة المعركة مع الفصائل الفلسطينية، مشيراً إلى أن فرصة تحقيق ردع طويل الأمد منخفضة جداً.
"ثأر الأحرار" في الميزان العسكري:
عندما تبدأ الأعمال القتالية بين أي طرفن متحاربين يركز المحللون والمهتمون بالفكر العسكري وتطور دراساته على متابعة سير المعارك والتكتيكات المعتمدة من كل طرف، مع ترقب النتائج التي تفرزها يوميات الحرب، وتوقع مآلاتها وخواتيمها النهائية، فيقدمون الرؤى والتصورات والاحتمالات الممكنة التي يخيب بعضها، ويصيب بعضها الآخر، ولا يختلف عاقلان على أنه لا يمكن المقارنة بين القوة العسكرية لدى الكيان الغاصب وما لدى فصائل المقاومة، فقادة "تل أبيب" يتغنون بأن جيشهم ضمن العشرة جيوش الأقوى في العالم، ومع ذلك عجز عن تحقيق الأهداف العسكرية التي أعلنها من عمليته التي أسماها "السهم والدرع"، ومن الضروري جداً البحث التفصيلي في معركة "ثأر الأحرار" من منظور عسكري، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى عدد من النقاط المهمة، ومنها:
• التفوق العسكري الإسرائيلي الكبير في موازين القوة العسكرية والطاقة التدميرية لم يكن قابلاً للصرف في نهاية المعركة، ولم ينفع حكومة نتنياهو في فرض النهاية المطلوبة سواء من حيث التوقيت، أو من حيث النتائج.
• منذ لحظة اغتيال القادة في حركة الجهاد الإسلامي والمسؤولون الإسرائيليون يتواصلون مع كل من يمكن أن يضغط على فصائل المقاومة في غزة لتمتنع عن الرد، أو ليكون ردها شكلياً فقط، بحيث لا يستوجب الرد على الرد، لكن ذلك كله فشل، وحركة الجهاد الإسلامي هي التي حددت توقيت الرد وحجمه ومدة استمراريته ومداه، وهذا يعني أن زمام المبادرة كان بيدها، وليس بيد جيش الاحتلال.
• الرشقة الأولى في الاشتباك بعد الاغتيال كانت للمقاومة، والصلية الأخيرة قبل لحظات من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ كانت للمقاومة أيضاً، وفي الفكر العسكري ينظر إلى هذا الأمر كإحدى القرائن الدالة على النصر.
• الصبر الاستراتيجي المضبوط بدقة عالية إيقاعه وتفاصيله أدخل جيش الاحتلال وحكومته في دوامة، وجعلهم يشككون بكل حساباتهم التي بنيت على أساس أن الجهاد الإسلامي سيرد قبل انقضاء الليل على أبعد تقدير، ومجرد أن يتناقش المسؤولون العسكريون والأمنيون والحكوميون بهذا العنوان أمر مهم أتى بعد التأخر بالرد وفقدان البوصلة، وهذه كانت أولى بشائر النصر بالمقياس العسكري الموضوعي.
• على الرغم من فداحة الخسارة باستشهاد القادة لثلاثة قبل بدء المعركة إلا أن الجهاد الإسلامي أثبت قدرة فائقة على استيعاب الصدمة وامتصاصها، والانتقال برباطة جأش وثقة إلى الرد المدروس، واختيار توقيته وفرضه على العدو.
• التنسيق العالي والنجاح في تصدير خطاب إعلامي متزن باسم غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية أسقط أحد أهم أهداف العدوان الإسرائيلي المتمثل بإمكانية الاستفراد بكل فصيل فلسطيني على حدة، فتبين أن الفصائل موحدة ومتلاحمة ومتضامنة وهذا ما أفقد تل أبيب الاتزان والقدرة على تقدير الموقف المتشكل بشكل صحيح.
• وصول صواريخ الجهاد الإسلامي إلى: ريشون ـ لتسيون ـ غوش دان ـ رامات غان ـ حولون ـ أسدود ـ بئر السبع ـ سيدروت ـ تل أبيب ـ القدس وغيرها يؤكد ثلاث نقاط جوهرية، هي:
أ ـ ما من مكان آمن في كيان الاحتلال.
ب ـ التدرج في أمدية الاستهداف، وضبط تدرجه واتجاهاته يعني الكثير وجنرالات العدو يدركون ماذا يعني هذا الكلام.
ج ـ فشل القبة الحديدية ومقلاع داؤود في التصدي لصواريخ المقاومة المصنعة فلسطينياً له منعكساته السلبية على الصعيدين العسكري والمجتمعي الإسرائيلي، وهذا الأمر ليس مجرد عنوان أو فكرة ترتبط بغيرها، بل جانب مهم يحتاج إلى بحث تحليلي مطول يمكن أن يبنى عليه الكثير.
خلاصة:
ارتدادات نتائج معركة "ثأر الأحرار" ستتبلور أكثر فأكثر مع مرور الوقت، ويمكن القول إنه حتى الآن اتضح أمران أساسيان هما:
1- تآكل قدرة الردع الإسرائيلي في ازدياد، والردع اليوم متبادل، وقد لا يطول الوقت ليصبح سلاحاً فعالاً بيد فصائل المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال.
2- قد تستطيع فصائل المقاومة الفلسطينية بذاتها حسم الصراع مع العدو الإسرائيلي من دون الحاجة لمشاركة بقية أطراف المقاومة من خارج فلسطين للدخول في الحرب الكبرى القادمة، فإذا كان الجهاد لإسلامي بمفرده وببعض أسلحته العادية استطاع خلال خمسة أيام أن يجعل حكومة نتنياهو تستجدي وقف إطلاق النار، فماذا لو كانت جميع الفصائل الفلسطينية منخرطة بكل طاقاتها في الأعمال القتالية؟ وكيف ستكون الصورة لو تحرك الأهل من عرب 48 وكانوا جزءاً فاعلاً في أية مواجهة قادمة؟.
سؤال أترك الإجابة عليه للسادة القراء ليقدم كل منهم الجواب الذي يقنعه.
د. حسن أحمد حسن
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال