لم يتوقع الكيان الصهيوني ومنذ فرضه في المنطقة بالتآمر من الانتداب البريطاني مع متزعميه المؤسسين من نخب سياسية وميليشيوية عسكرية، من حصول تبديل في موازين القوى على مختلف الجوانب، حتى مع بروز المقاومة والكفاح المسلح مطلع الستينيات من القرن الماضي، لم تكن الجهات الإسرائيلية تتوقع أن يُحدث هذا الحراك المسلح تغييراً في مشهد الصراع أو من طبيعة الاشتباك، ولاسيما في ظل افتقار هذا الكفاح للعتاد العسكري الكافي والنوعي وافتقاره للتنظيم والحنكة القتالية مقابل امتلاك جيش الاحتلال الإسرائيلي أحدث الأسلحة المختلفة وتلقيه تدريبات على مدى عقود من الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن الخذلان الذي اعترى موقف معظم الدول العربية وتشرذم العلاقات البينية السائدة وتراجع الدعم المقدم لهذا الكفاح الفلسطيني.
غير أن هذه العوامل المهدمة للكفاح الفلسطيني لم تردع الشعب والفصائل على حد سواء من مواجهة الاحتلال، بل ذهبت أبعد من ذلك لتطوير آليات المواجهة في خضم هذا الصراع، حيث تطور العمل الفدائي من الفعل الاستشهادي وصولاً إلى صراع الأدمغة والعقول وحرب ما يمكن تسميته بالقدرات العلمية والفكرية والذي ترك تأثيره على تطوير الأسلحة بشكل ذاتي والاستفادة من التجربة التي قدمها حزب اللـه اللبناني، مستغلة حصولها على دعم كل من سورية وإيران، حتى بات لدى هذه الفصائل القدرة على امتلاك زمام المبادرة والتأثير والتحكم وهو ما برز بمعركة «سيف القدس» في العام الماضي، حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية نقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة، تزامناً مع حراك فلسطيني شعبي داخل مناطق ما يعرف بـ«أراضي 48»، كما أن سير المفاوضات لوقف إطلاق النار لم يتم إلا بموافقة وشروط المقاومة، وهو ما دفع مركز «بيغن» للدراسات من خلال تقديراته الإستراتيجية في أيلول 2021 للقول: «إن على إسرائيل التنبه من الخطر الداخلي الفلسطيني أكثر من الإقليمي، وإن القدرة على نقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة والتوتر الذي حصل في المناطق المختلطة يشيان بأن هذا الخطر هو أكبر بكثير من التقديرات التي قدمت وهو يشكل قنبلة مدمرة لإسرائيل».
وسط هذا التطور في المسار المسلح على المستويين الشعبي والفصائلي، شهدت الأراضي المحتلة مؤخراً أربع عمليات فدائية في أقل من شهر أودت بحياة 13 إسرائيلياً على الأقل، من خلال عمليات الخضيرة وبني براك وبئر السبع وأخيراً عملية تل أبيب، وهذه العمليات لم تكن مفاجأة أو استثنائية لكنها حملت دلالات في وجهين رئيسين، الوجه الأول يكمن في حصولها بشكل متعاقب في ظل تأهب أمني استخباراتي إسرائيلي، أما ثاني الوجوه فيتمثل في وقوعها بمناطق حيوية ما يعمق حالة الانشراخ الحاصلة بين المستوطنين والأجهزة الاستخباراتية الأمنية والعسكرية، بالتزامن مع تطورات سياسية يشهدها الداخل الإسرائيلي وبصورة خاصة تصدع الائتلاف الحكومي الذي يقوده بينت-لابيد بعد الانسحاب المفاجئ لرئيسة الائتلاف الحكومي في الكنيست والعضو النائبة عن حزب يمينا عيديت سليمان من هذا الائتلاف ودخول حكومة بينت- لابيد في مستقبل غامض يحتمل انفراط عقد هذا الائتلاف، ويزيد من فرص احتمال الذهاب نحو انتخابات برلمانية مبكرة، يتطلع إليها رئيس الحكومة السابق ومتزعم المعارضة في الكنيست بنيامين نتنياهو.
كما أن الإرادة الشعبية الفلسطينية التي برزت في جنين هذه المرة، تؤكد حتمية احتمال تصعيد الصراع، ومن دون أدنى شك فإن الظروف والعوامل الإسرائيلية والفلسطينية ناضجة لوقوع ذلك، فضلاً عن العوامل الإقليمية والدولية، في صورة مشابهة لما حصل بعد أحداث حي الشيخ جراح في القدس مطلع عام 2021، ليكون بذلك رئيس حكومة العدو نفتالي بينت أمام ثلاثة سيناريوهات: أولاً نقل أزمات الداخل الصهيوني ولفت الأنظار عن التصدع الذي يعيشه ائتلافه بعدوان عسكري جديد، يسعى من خلاله لتعزيز ثقة المستوطنين بقدرات جيشهم المحتل وأجهزتهم الاستخباراتية، وهذا السيناريو قد يكون كارثياً لمستقبل بينت وخاصة أن هناك تقديرات بحثية عسكرية وأمنية تؤكد أن الفصائل الفلسطينية تجرعت ثقة أكبر بعد معركة «سيف القدس» وامتلكت ما يكفيها من الخبرة والمهارات التي تجعلها تطلق صواريخ أدق وبإعداد أكثر، وتمكنت من ترميم بنيتها بسرعة على الرغم من الحصار المفروض عليها، حتى إن نفوذ هذه الفصائل ومجموعاتها لم تعد محصورة الوجود في قطاع غزة، بل امتدت للضفة والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة أو التي تقع تحت إدارة السلطة.
ثانياً: هو أن يبحث بينت عن تصعيد مضبوط يستعرض عبره بعض قدرات جيشه العسكرية بالتزامن مع مفاوضات تتم عبر مصر لتحقيق عدة أهداف سياسية داخلية وخارجية من دون التعرض لهزيمة جديدة، وهذا يحتم على حكومة الاحتلال تقديم بعض التنازلات كتخفيف الحصار أو الضغط لتجفيف المساعدات على قاعدة العصا والجزرة.
أما السيناريو الثالث فيكمن في حصول المزيد من العمليات الفدائية الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وتصاعد الحراك الشعبي للتخفيف من الضغط الإسرائيلي على جنين، وتدحرج الأوضاع السياسية الداخلية بعكس ما يتمناه بينت لمصلحة شريكه في الحكومة لابيد أو خصمه نتنياهو.
جنين التي باتت تشكل اليوم مركز اهتمام للمقاومة الشعبية والمسلحة على حد سواء، أظهرت مدى إخفاق الاستخبارات الإسرائيلية في معرفة تنامي حركات المقاومة التي هددت بتصعيد واسع في حال استمرار التصعيد الصهيوني، فالكلمة العليا اليوم هي للمقاومة وجبروتها اللامحدود على الرغم من كل الصعاب المحدقة والتخاذل المعلوم وغير المعلوم.
المصدر: الوطن
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال