“أعتقد أن الذاكرة هي أهم ممتلكات البشر. فهي نوع من الوقود؛ يحترق ويدفئك. ذاكرتي مثل الخزانة: هناك الكثير من الأدراج في هذه الخزانة”. هاروكي موراكامي.
فلسطين والذاكرة
السؤال الذي يراود الجيل الذي وُلِد بعد النكبة، وأنا منهم، يقول: هل فلسطين ما قبل نكبة العام 1948 تشبه ذاكرة جيلنا، بما معناه تطابق مرجعيتها مع الذاكرة، ليصبح فعل التذكّر نفسه يشبه فلسطين؟ ثم هل يمكن زرع ذكريات خاطئة في عقول الناس، كعادة المجرم للتّخلص من الشهود؛ ولتبيّن بالقرائن حقيقة الصهيونية، أنّها لم تسلب فلسطين من أهلها فحسب، بل سعت إلى طمس تاريخها وحتى فبركة ذاكرة لا تشبه مرجعيتها التاريخية؟ لأن التحدي الأكبر في كل عملية تذكّر يتمثل في ما تواجهه الذاكرة من تلاعب أو تزييف مبرمج، يخضع لعملية اجتماعية تربوية ممنهجة، وما يؤدي إليه من ظهور أشكال سلبية من الذاكرة، كالذاكرة المفرطة أو المثقوبة أو تدنيس الوعي أو إعادة إنتاج وعي عام جديد، وفق رواية جديدة للصراع العربي – الصهيوني، وأن الفلسطينيين والعرب أنفسهم هم المسؤولون عن النكبة وأخواتها، ومدخلها تشويه الذكريات.
بالمجرّد، تشرع في عملية التخيّل لحدث ما، يتم اختراعه وترويجه، ثم يتم تداوله، ونظن أنه وقع حقاً في الماضي. وبالملموس، يتم بناء ذاكرة ما تقوم على كذبة مثل “بيع الفلسطينيين لأرضهم”، وأن خروجهم من أرضهم كان بطلبٍ من حكّامهم العرب، وذلك للتغطية على مجازرهم المروّعة بحق الفلسطينيين.
التذكّر مقاومة
إنما التّذكُر فعل مقاومة، تحتل فيه “الذاكرة الغريزية” المكانة الأساسية، خاصة في حال الشعب الفلسطيني، نضال الذاكرة ضد النسيان. ومصدر التذكّر هو في تناسل رموز الوطن في الذاكرة، من مفاتيح البيوت وصكوك الملكية، واللكنة والأمثال والتراث والتقاليد والعادات والثقافة الشعبية. ذاكرة الأمكنة التي طُرِد منها الفلسطيني ظلماً وقهراً، وتمسّكت بالروايات الموثقة عن الحقوق المغتصبة، وحق العودة، وتمّ توارثها عبر الأجيال، وهي تغلي في الوجدان… إنها ذاكرة فلسطين. واجب الذاكرة يقتضي بالأساس واجب عدم النسيان، وهذا يعني أن الجزء الأساسي من البحث عن الماضي يكمن في تعليم عدم نسيانه. ويرتقي واجب الذاكرة الفلسطينية إلى مستوى المقاومة، ومحاربة المحو والنسيان. تصبح الذاكرة رمزاً للحياة، كما يرمز النسيان إلى الموت، ربما الذاكرة أكبر وأخصب من الحياة، كما قال الكاتب الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز: “الحياة ليست ما عاشه الواحد منا، بل ما يتذكره، وكيف يتذكره ليحكيه”.
كيّ الوعي والذاكرة الجمعيّة
قد يُعدّ مبالغة لو قلت إني صرت أخشى ألا يبقى هناك ذاكرة جمعيّة، أو جماعية في عملية التذكّر. هنا، تكمن أهمية الأدب، وتحديداً الحديث منه، في ألّا يبقى مجرد اجترار للماضي، بل حلّ لغز الذاكرة ضمن صوغ جديد حتى يخرِجَها من الإقصائية أو التضاد، إلى علاقة تواصل واستمرارية بين ذاكرة كلاسيكية وأخرى حديثة، عمودية وأفقية، زمانية ومكانية. إن الذاكرةَ القديمةَ سُجّلت بواسطة السرد التسجيلي المعيش، الذي وُجدت له مكانة ما زالت تُورّث وتُخلّد في الذاكرة الجماعية.
في سنّ الطفولة، كانت تُروى لنا قصة من المخيال الشعبي، عن الرجل المُسنّ الذي خرج من بيته وضاع في الغابة، لأنه أصيب بفقدان الذاكرة. إن الذي يفقد ذاكرته لا يمكنه أن يعود. الذاكرة يصعب محوها، إنها مرتبطة بالألم. هي تسجيل وبانوراما تراجيدية لنكبة الشعب الفلسطيني ونكبة العرب، حِفظها هو مقاومة للنسيان أولاً، بل إن الذاكرة الفولاذية الأصلية تواجه برسوخها الذاكرة المعطوبة أو المثقوبة أو المهزومة أو المزيفة والمخترعة. إلى ذلك قصدت عندما جعلت البطل في روايتي “الزعتر الأخير” مصاباً بداء نادر ومقلق لسائر البشر، باستثناء الفلسطيني، وهو داء “فرط الاستذكار”. ربما هو شكل من أشكال التعويض، أو دعوة إلى توظيف ذاكرة الفلسطيني في توثيق الوطن، في الشتات وداخل المخيم، كجزء من نضال الفلسطيني وحياته في الدفاع عن روايته، وبحثه عن الحياة والوجود والعودة، والتمسّك بالحق والقتال لتحرير وطنه.
هندسة الهوية
افترض الروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشع أنّه “لو كنتُ مليونيـراً، وطلبتْ منّي جامعة مرموقة التبرّع بمبلغ من المال لفعلتُ ذلك بشرط وحيد: أن يُخصّص المال لتأسيس كرسيّ لدراسة “هندسة الهويّة”، سأجمع باحثين من مختلف الاتّجاهات لدراسة إمكانيّة كبح الهويّات القوميّة وتغييرها”.
يكشف يهوشع في ما قاله عن حقيقة أساسية، متّصلة بـ”الشيزوفرينيا” الوجودية التي يعانيها الكيان الصهيوني المعاصر، والمآزق الأخلاقيّة والتاريخيّة التـي يجدُ نفسه فيها، في معنى سؤال الهوية، ومن هو اليهودي؟ وتتشعّب الأسئلة الوجودية عن العلاقة بالزمن، والعلاقة النزاعية بالآخر، وأخيراً عن العلاقة بميراث العنف التأسيسي. والأهم هو ما ذكره المؤرخ نور مصالحة، في كتابه الموسوعي “فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ”، الصادر عن “مركز دراسات الوحدة العربية”، حيث أورد كيف قام الصندوق القومي اليهودي بزرع آلاف الدونمات من غابات الصنوبر، غرضها إخفاء القرى الفلسطينية المدمرة، وتكوين “مشهد توراتي” ريفي جديد، بما يعني خلق ذاكرة جماعية جديدة! ويعني هذا العامل الأخير أنّه لا وجود لجماعة تاريخية وُلِدت من دون علاقة أصيلة بالأرض.
لذلك، فإن صناعة بانوراما ريفية كشهادة مزورة لاستملاك قديم للأرض، تمهيداً لطمس التاريخ، تهدف إلى تحويل ذكرى النكبة إلى ذكرى مضادة تعني “الاستقلال”! وبشكل أو بآخر، هي ذكرى ترتبط بالنكبة، فهي من الأحداث المؤسسة لوجوده. وهي ذاكرة حيّة معاشة، تروي معاناة مستمرة من أفعال عنيفة، تمّ صبغها بصبغة الشرعية من خلال قيام الكيان رسمياً، الذي عدّ النكبة إنجازاً وطنياً! وجعلها مناسبة احتفالية تحمل اسم عيد الاستقلال والتحرير!
ذاكرة النكبة
المفردات لها رمزيتها في الثقافات الإنسانية عامةً، لكن لها خصوصيتها عندنا، ولمن يخوض صراعاً حولها. وانطلاقاً من محاولات محو ذاكرة النكبة، فإنها تعطي مفعولاً عكسياً. إن إخفاء الأدلة يعني أن الجريمة فظيعة، وحذفها يساوي حذف اسم فلسطين من الخارطة، وسلب الأرض، وإنكار التاريخ، واقتلاع شعب، ومحو شخصيته. ويكشف هذا السياق طبيعة المشروع الصهيوني وحقيقته، كمشروع إحلالي نقيض، من النوع الاستعماري الإقصائي، يريد أن يقصي كل شيء. الاستعمار الصهيوني هو استعمار متفرّد، يقوم على الاستيطان وجلب المستوطنين من بلاد أوروبية، ليتّخذوا من فلسطين وطناً لهم، تحت ادّعاءات توراتية أسطورية، على حساب شعبها الآمن المستقر في هذا المكان منذ آلاف السنين.
لذلك، يستحيل قطع الجيل الفلسطيني الجديد عن النكبة، بل يُعاد إنتاجها في ذاكرته، وهذا أحد أسرار شحن الهوية الوطنية. تتجدد الذاكرة وتتواصل من واقع نكبة الشعب الفلسطيني، وخصوصيتها وتفرّدها عن غيرها من النكبات التي ابتُليت بها الأمة العربية في فترات الاستعمار، مطلع القرن الـ20، أنّ جوهرها كان قائماً على ترحيل شعب، وجلب شعب آخر ليحلّ محله. حتى إن الأمر يصل إلى مستوى الإبادة الثقافية. النتيجة ليست فقط معايير درجة المواطنة، وأن الفلسطيني أصبح لاجئاً. هذا لا يكفي، أو في أفضل الأحوال، تحوّلَ الفلسطينيون إلى مواطنين من الدرجة الثانية، في فلسطين أو في دول أخرى.
لقد جرى تمزيق المجتمع الفلسطيني، واغتيال الحقيقة لسلب الحق، وإسكات الرواية لطمس التاريخ، وكذلك محاولات لـ”عبرنة” الذاكرة، وبدايتها تفكيك هذه الذاكرة، فالمطلوب من الفلسطيني أن ينسى أو أن يستعين بذاكرة دخيلة، عملاً بهندسة النكبة وفق مقولة “يموت الكبار وينسى الصغار”. لذلك، نرى الصهاينة يعمدون إلى تفسير الحوادث السابقة بطرق جديدة، مثل “المحرقة” كذاكرة تمجّد فكرة الضحيّة، ولتبرير دور الجلاد الذي يقومون به، مع انتقالهم من مرحلة إلى أخرى في حياتهم. تخيّلوا أن يصرّح رئيس حكومة الاحتلال الأسبق، إيهودا باراك، بالقول: “لو كان جيش إسرائيل موجوداً لما حصل الهولوكوست”.
ذاكرة مؤدلجة
وممّا لا شكّ فيه أن هنالك عوامل عديدة تقف وراء التلاعب بالذاكرة، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالمطالبة بهوية معينة، وبالتعبير العلني عن الذاكرة. من أهم هذه العوامل التي يتوقّف عندها بول ريكور هو عامل الأيديولوجيا، فإذا كان معروفاً دور الأيديولوجيا في النظم السياسية والاجتماعية، فإنّ ما يجب الإشارة إليه هو دورها في إعطاء صبغةٍ شرعيةٍ للنظام السياسي، والدفاع عن مصالحه ورؤيته، وتوحيد المتنوع داخل المجتمع في نسقٍ رمزي واحد، وتقديم أساس للفعل والعمل المشترك.
وتقوم القصص والروايات، أو السرد عموماً، بوظيفة تثبيت الذاكرة المؤدلجة، من خلال القصص التأسيسية التي تروي المجد والإذلال، والانتصار والهزيمة، والكرامة والهوان. وبالطبع، فإن العنصر الأيديولوجي حاضر في عملية التشويه والتزوير والتحريف، وذلك من خلال لعبة القسمة بين تاريخ مسموح به ورسمي، وتاريخ مرفوض ومنسي، كما يتم تثبيت الذاكرة والتدريب عليها من خلال مؤسسة التعليم.
ذاكرة مثالية
أن نتذكّر يعني ألّا نستطيع أن ننسى الظروف التاريخية التي أردنا فيها الذاكرة. إن حدثاً بمستوى الأحداث الرهيبة التي وقعت في منتصف القرن الـ20، يسمى بالحدث التاريخي. لكن، ما قيمة استذكار سلبية التاريخ؟
هنا، يمكن الحديث عن ما قاله الناقد الأدبي تزفيتان تودوروف، تحديداً في دعوته إلى ضرورة “استخراج قيمة مثالية من الذكريات الصادمة المؤلمة”. كيف ذلك؟ يتمّ ذلك بتحويل الذاكرة إلى مشروع، وهذا يكون باستقراء التاريخ لاستخراج الدروس، وحتى القيمة المثالية التي توجّهنا نحو المستقبل.
قرأت عن شكل من ذلك عند الأسير، وعن محاولات مسح ذاكرته وتسفير، أو إسقاطه وكسر إرادته، وعن صموده في الزنازين وتحت التعذيب، في كُتيّب توجيهي اسمه “فلسفة التحدي”، وهو خاص بتهيئة المناضل قبل الأسر، من أجل تدريبه على التعامل مع المحقق. يوصي هذا الكُتيّب بتذكّر تاريخ البطولة لشعبك على نحو دائم؛ الشهداء والرموز وكل شيء مشرق في تاريخنا. وهنا، يصبح واجب الذاكرة مغزاه التحرر من اليأس، لأن الذاكرة ترتبط بفكرة الحق. هنا واجب الذاكرة؛ أن تستخرج من التاريخ قيمته المثالية، لتصبح الذاكرة قوة محفِّزة نحو المستقبل والأمل.
ذاكرة دينية مختَلقة
في كتاب “ما بعد إسرائيل.. نحو تحوّل ثقافي”، يفكك المؤلّف مارسيلو سفيـرسكي نموذج الذاتية الصهيونية، عندما يلبس جنرالات الحرب أزياء المدرّسين، ويصبح النبي إبراهيم ليبرالياً. بل هي محاولة لإعادة بناء سرديّة اضطهاد ضاربة في القِدم، وممتدّة في الزمن التاريخي، ومتجاوزة إيّاه إلى زمن أسطوري يتحوّل فيه التاريخ الديني إلى جماعة مُوحِّدَةٍ مؤمنة بإله واحد، إلى تاريخ قومي لجماعة مُوحَّدَةٍ مؤمنة بأرض واحدة، خرجت منها لسبب أو لآخر، وصار عليها أن تعود إليها تصديقاً للوعد الإلهي، وتحقيقاً لمشروع الوحدة القومي.
عندما يجري اختراع ذاكرة دينية، تتناول “الإرث الأبوي الإبراهيمي”، بحسب عبارة سفيرسكي، وتخضعه لعمليّة تحوير تجعل منه معادِلاً موضوعياً للدولة. ويتجسّدُ ذلك من خلال إسقاط فكرة التضـحية الإبراهيمية، القائمة على تلبية نداء الله في تقديم ابنه قرباناً لهُ ومطاوعة الابن للأب، على فكرة تلبية الأولياء الإسرائيليين نداء الدولة، من خلال تشجيع أبنائهم على الخدمة العسكريّة.
ذاكرة بديلة متخيلة وافتراضية ووهمية، تبدأ بتركيب الماضي إما بتحريفه أو إنكار ما يريد منه، أو يبني ذاكرة مستمدَّة من الحاضر للاستحواذ على المكان، يقوم بتسييس التاريخ. المؤرخ الصهيوني في هذه الحالة قام بتصميم الأمكنة ليخترع ذاكرة اليهودي، التي تعني شيئاً له لاكتساب شرعية فيه، ما يسمى بـ”استنطاق الحجر”، لذلك جرى تعقب الذاكرة الفلسطينية وملاحقة التاريخ لتلفيق “إسرائيل” القديمة، وطمس التاريخ الفلسطيني، كما ذكر كيث إيتلام، يستدعي كشف العلاقة الصعبة مع الزمان، أي أنّ هشاشة الذاكرة تُفضي إلى هشاشة الهوية. من هنا يأتي التحدي الثقافي، كضرورة لمضاعفة المناعة الذاتية التي يستولدها الشعور بالتهديد من الآخر. فاحتلال الأرض سيظلّ ناقصاً ما لم يحتلّ الهوية والإرادة والتاريخ، ويفكك الرواية. هذه مقومات الشعب، ويستكمل احتلاله ومنعه من مقاومة الاحتلال عبر احتلال الذاكرة واستعمارها، وعبرنتها إن استطاع.
التطبيع الديني تحت مسمّى “الإسلام الإبراهيمي” هو القناع المزيّف لاحتلال الذاكرة، وإحلال هويات هجينة تسلب من العربي قوة وحدته وإيمانه بالحق والعدل، خاصة أنّ المشروع الصهيوني موضوعياً هو مشروع إبادة ثقافية جماعية، قام على أساس تفكيك وجود شعبٍ فلسطيني وإنكاره، إضافة إلى منعه من الارتباط ذاتياً بنفسه ومنعه من رواية قصته.
ذاكرة مسلوبة
من موقع تفضيل الذاكرة على التاريخ، لأنّ الذاكرة أكثر أصالة وصحة ووضوحاً من التاريخ، فإن بناء السرد التاريخي يجري على الأسطورة أو اختراع رواية ناقصة، أو سرقة رواية قائمة.
القسم الأكبر من تاريخنا مكتوب من خارجها. لم تتوقف عملية السطو على الذاكرة، إذ يظهر الوجه الإقصائي للصراع قائماً على نفي النفي. حرب على الذاكرة من خلال النظر إن كان هناك جسد فلسطيني قديم، وجسد إسرائيلي يعمل على احتواء الجسد القديم، بعد أن يئس من إبادته ومحو ذاكرته، فقام بسرقتها. طالما أن العدو يشنّ حرباً على الذاكرة، يصير حفظ الذاكرة لتأكيد الحق والهوية وشرعية البقاء، لذلك يجب تعزيز المقاومة الثقافية.
عندما يقاوم الشعب الواقع تحت الاحتلال، فهو بمنزلة “شعب يستعيد نفسه”، فالاستعماري لا يستطيع الهيمنة إن لم يُفلِـح، وبسرعة ومهارة، في تشويه ذاكرة الشعب المغلوب.
النموذج الصحيح يكون من بوابة تحويل العواطف من ذاكرة جامدة إلى ذاكرة حية، كتجربة الأدب الفلسطيني المقاوم، شعراً ورواية وفكراً، عندما يلتصق في الذاكرة جغرافيا المناطق والقرى الفلسطينية المدمَّرة، ونرى المخيمات الموزَّعة داخل الحدود وخارجها، سنعود إلى ذاكرة التاريخ، ذاكرة الصراع، لا سيّما أن النكبة وما تلاها هي احتلال في سياق مشروع استعماري استيطاني، يطبّق منذ أيامه الأولى أسوأ أنواع التهجير والإحلال والمحو.
لندرك أنّ “ما بعد إسرائيل” هو ما قبلها، فلسطين التي طُمِس تاريخها وذاكرتها وتنوّعها الثقافي طوال سنوات النكبة، لكنها لم تُسقط سلاح الذاكرة من يدها، وهي ذاكرة مورست بشتى أجناسها، من الشفوية إلى المكتوبة، من صفحات الأدب شعراً ومسرحاً وفناً وتأريخاً… خاصة أنّها ذاكرة أصيلة متناقلة بين الأجيال، أفقية وعمودية.
اشتعال روح المقاومة واستمرارها هو تنشيط حيوي للذاكرة، يغذيها ويحفظ استمراريتها.
الذاكرة تاريخ شفوي، لكن لكي تظل ذاكرة حيّة يجب أن تنتقل من الشفوية إلى الرقمية، ومن الفردية إلى الجمعية، والصدقية تكون عندما يتمّ توثيق الرواية وتبنّيها.
شدّد المناضل الأسير، والأديب كميل أبو حنيش، حين كتب: “وهناك في اللاوعي، حيث الخزّان الأكبر للذّاكرة المطويّة في غياهب النسيان، أحاول إقفال أبوابها وعدم العبث بها، لئلا تتسرّب أحداثها وأغرق في أعماقها”. لا يمكن الوقوف على الحياد بين روايتين متناقضتين، إحداهما حقيقية تمتلك وقائعها وقرائنها ووثائقها، والأخرى مزيفة تدّعي الحقيقة. حماية الذاكرة من خلال التوثيق مهمة، لكنّ التاريخ مسألة سياسية وجماعية أولاً وأخيراً، قبل أن يكون صراعاً سياسياً.
واجب الذاكرة الجمعية
رغم هشاشة مقولة ميلان كونديرا: “النضال ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان”، فإنّ محمود درويش يصدمنا في نصه الطروادي والمجنون والمتمرد، “ذاكرة للنسيان”، بالقول: “من دون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان”.
وباعتبار أنّ الذاكرة الفلسطينية هي عملية تأريخ للغياب/النسيان، وهي مقاومة تفكيك محدِّدات الهوية، تحذير أنّ الفوضى وتشتيت الثورة وتعدّد المرجعيات يهدف إلى خلق شخصيات مجرّدة من التاريخ والذاكرة.
يتمثّل واجب الذاكرة الفردية في تغذية الذاكرة الجمعية بمضمونها الإيجابي، واستعادة مكانتها في معادلة الصراع، لأنّها ليست معركة جيوش فقط، بل مقاومة شاملة.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال