خلال الشهور الثلاثة الماضية استهلكت الحرب المفتوحة والمعلنة في أوكرانيا، والحرب المفتوحة دون إعلان في فلسطين، كل الهوامش المتاحة للبقاء ضمن حدودهما، والبقاء على نار هادئة، فقد استهلك الأطراف المنخرطون في هاتين الحربين هوامش تفادي الدخول في المواجهة المباشرة، وهم في حرب أوكرانيا روسيا من جهة وحلف الناتو من جهة أخرى، وفي حرب فلسطين كيان الاحتلال من جهة ومحور المقاومة من جهة مقابلة. وليس خافياً أن مشروع حلف الناتو كان يقوم على رهان استنزاف روسيا عسكرياً من خلال خطة تقوم على تعزيز قدرات الجيش الأوكراني وتزويده بالسلاح والمال والوقود والمرتزقة، وعلى دفع الاقتصاد الروسي نحو الإفلاس عبر السطو على مخزونات العملة الصعبة للدولة الروسية، ودفع سعر الروبل للانهيار، لتضييق هامش قدرة الدولة الروسية على مواصلة الحرب. وهذه الرهانات استنفدت قدرتها على التأثير. فالجيش الأوكراني يدخل أزمة استنفاد قدرة الصمود خصوصاً على صعيد البنية البشرية وخطوط الإمداد، وإمكانات التزود بالوقود، والاقتصاد الروسي تجاوز المحطات الصعبة ودخل في التأقلم الطويل المدى، بعدما نجح بتصدير الأزمة إلى أوروبا وفق معادلة الغاز مقابل الروبل.
في فلسطين، استهلك كيان الاحتلال فرص الرهان على المراحل الرمادية في الصراع المتصاعد مع قوى المقاومة، فلا الضوابط التي وضعها للسيطرة على معادلة التعامل مع القدس حققت المراد منها بتنظيم درجة المكاسب والخسائر لكل من المقدسيين والمستوطنين، وسقط هامش لعبة فتح باب ميادين الأقصى للمستوطنين ومنعهم من مسيرة الإعلام، فاشترت الحكومة غضب الطرفين. وبالتوازي فشلت محاولة احتواء العمليات البطولية الفردية الفدائية التي تحولت خطاً متصاعداً، هشّم صورة الأمن الإسرائيلي، وأظهر ضعف الحكومة وجيش الاحتلال، وسقوط التنسيق مع السلطة الفلسطينية كضمان للأمن، والتطبيع مع دول الخليج كضمانة لإحباط الفلسطينيين، وشيئاً فشيئاً يجد نفسه أمام خيارات الغضب المتصاعد من طرفي المنازلة، أمام لحظة صدام تقترب مع غزة، خصوصاً بعد معادلة القدس وجنين خط أحمر التي رسمتها المقاومة، وبعد إعلان رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار عن قرار فك الحصار وتبييض السجون، وانتقال المقاومة من الدفاع إلى الهجوم. وبالتوازي سقط هامش المعركة بين حربين الذي قام على الغارات الإسرائيلية على سورية، مع إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قرار إيران والمقاومة بالردّ الفوريّ على أي عدوان.
يدرك الأميركيون والأوروبيون مخاطر التورّط في حرب مباشرة مع روسيا، هدّد الرئيس الروسي باعتبارها تهديداً استراتيجياً يصبح معه خطر المواجهة النووية داهماً، سواء حدث هذا بنتيجة تدخل عسكري غربي لإسقاط طائرات او تدمير سفن حربية لروسيا، او من خلال القيام بإيصال المساعدات العسكرية الى داخل أوكرانيا بمعية الجيوش الغربية، او من خلال ما لوّحت به بولندا بدخول جيشها الى اراض أوكرانية تحت شعار وحدة الشعبين، ففي كل من هذه الحالات سرعان ما سيجد الغرب أنه وجهاً لوجه في حرب تتدحرج مع روسيا، ويدرك الإسرائيليون خطورة التورط في حرب مع غزة، وخطورة التورط في منازلة ردّ وردّ مضاد على عمليات تستهدف إيران والمقاومة في سورية، واحتمال نشوب حرب شاملة، سواء من خلال تصاعد حرب مع غزة قابلة للتحوّل الى حرب مع محور المقاومة، أو من خلال تصاعد الردود على الغارات التي كانت حتى الأمس هامش مناورة متاح، لم يعد مؤكداً أنه يحظى بصمت روسي هذه المرة، وفي كل من هذه الحالات ستكون الحرب الشاملة خياراً ممكن الحدوث بقوة.
المواجهة المباشرة مع روسيا، ليست خياراً يمكن مناقشة احتمالاته بالنسبة للغرب، فهي الكارثة بعينها، خصوصاً إذا اخذت مخاطر المواجهة النووية بعين الاعتبار مع التسليم بالتفوق الذي تحققه روسيا على هذا الصعيد، والحرب الشاملة مع محور المقاومة ليست خياراً قابلاً للنقاش بالنسبة لـ “إسرائيل”، خصوصاً إذا أخذ بالاعتبار حجم التفوق الشامل لمحور المقاومة في مجالي حرب الصواريخ والطائرات المسيّرة من جهة والحرب البريّة من جهة مقابلة، لكن الطريق الوحيد لتفادي هاتين المواجهتين هي مبادرات تتميّز بالقدرة على التسليم بحجم من التراجع يشكل تعبيراً عن موازين القوى الجديدة التي تحكم هاتين الحربين، ومن خلالهما ترسم صورة العالم والمنطقة، ولا يبدو هذا الاحتمال بحجم من الحظوظ التي تتناسب مع العقول التي تدير الحرب على الضفتين الغربية والإسرائيلية، حيث الإنكار والمكابرة والعنجهية أقوى من الحسابات!
ناصر قنديل
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال