كان السجال الحربي بين المقاومة وكيان الاحتلال على أعلى مستوياته خلال الأيام العشرة الفاصلة بين نهاية معركة ثأر الأحرار، وخلالها خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في اليوم الثاني للحرب بإعلانه، «لن نتردّد في القيام بخطوة أو خطوات إذا اقتضت المسؤولية ذلك»، من جهة، وبين خطاب السيد نصرالله في عيد المقاومة والتحرير، وجوهر السجال الدائر والمعرض للانتقال من المواقف الى ساحات الحرب في أي لحظة، هو الإجابة عن سؤال هل دخلنا عملياً مرحلة وحدة الساحات التي تجعل ظروف مضي كيان الاحتلال بما يسمّيه بالمعركة بين حروب أشد صعوبة، وصولاً إلى حد الاستحالة تحت طائلة خطر الانزلاق الى الحرب الكبرى التي يؤكد رغبته بتفاديها، طالما أن جوهر المعركة بين حروب يقوم على استفراد الساحات واختيار نقاط ضعف كل منها لتصميم ما يناسبها من معركة بين حروب، تمنع مراكمة أسباب القوة فيها، وتتيح للكيان ترميم قوة الردع بالتراكم التدريجيّ؟
عملياً تبدو معادلة الردع بين كيان الاحتلال ومحور المقاومة انعكاساً لتلك المعادلة بين الكيان والمقاومة في لبنان، حيث نجح الاحتلال ولو من حيث الشكل بإيجاد نسخات من المعركة بين الحروب لكل من ساحات غزة وسورية والعراق وإيران، بالرغم من عدم نجاحه بتحقيق الأهداف، أي إعادة ترميم الردع لصالحه، وتعطيل مراكمة القوة لدى دول وقوى المقاومة، كما يعترف قادة الكيان أنفسهم، بينما بقي على جبهة لبنان مردوعاً عاجزاً عن المخاطرة بهز حبل الاستقرار، حتى عندما اعتبر تعطيل مراكمة أسباب القوة لدى المقاومة اللبنانية هدفاً يستحق المخاطرة، ذهب ليفعل ذلك عبر الغارات على سورية تفادياً للمواجهة مع المقاومة في لبنان. فيما تبدو المقاومة بالمقابل على العكس متحفزة منذ منازلات ما قبل اتفاق ترسيم الحدود، واستحضار المقاومة لعناصر قوتها، وصولاً إلى تعديل قواعد الاشتباك لصالح تعزيز معادلة الردع ورفع منسوبها من جهة، وتصدير بعض من فائض قوتها الى سائر الساحات المقاومة، بما هو أكثر من نقل الخبرات والأسلحة، الى حد تمديد مفعول نقل معادلة الردع على الحدود اللبنانية لتطال هذه الساحات تحت طائلة التهديد بفتح هذه الجبهة، بعنوان وحدة الساحات، وعندما تمت اختبارات تمهيدية لمفهوم وحدة الساحات خلال معركة المسجد الأقصى وإطلاق الصواريخ من لبنان، كان رد فعل الكيان بإعلان السعي لتفادي المواجهة مع حزب الله تعبيراً عن المعادلة الخاصة التي تحكم الردع مع المقاومة في لبنان، حتى جاءت الترجمة الجديدة لوحدة الساحات أشد وضوحاً بكلام السيد نصرالله عن عدم التردد بالدخول على خط المعركة إذا اقتضى الأمر.
انتهت معركة غزة ودخل قادة الكيان في تقييم النتائج، والحصيلة أنهم من جهة لم ينجحوا في ترميم قدرة الدرع، وأنهم يواجهون معضلة في الاختيار بين توسيع المعركة لتشمل حماس فتزداد التحديات خطورة، وإعلان أن المعركة محصورة بالجهاد الإسلامي، وأنهم يربحونها، وتفسير معنى استمرار الصواريخ بالتساقط وسط فشل ذريع بائن للقبة الحديدية، ومن جهة مقابلة خشية جدية من توسّع المواجهة الى ساحات أخرى، وخصوصاً ساحة لبنان، والتهديد بدا جدياً وواضحاً في كلام السيد نصرالله، رغم كل الرهان الإسرائيلي على ضوابط لبنانية تعوق ترجمة هذا التهديد بفعل عناصر التأزم الاقتصادي أو الانقسام السياسي، لم يظهر أنها شكلت مانعاً كافياً لصدور التهديد على لسان السيد نصرالله، وهذه الثنائية طرحت السؤال على قادة الكيان حول إمكانية وجود معركة بين الحروب إقليمياً تجتمع فيها الساحات، وليس فقط ساحة واحدة، أي الفك بين صيغة المعركة بين حروب وشرط الاستفراد من جهة، وبين المواجهة المتعددة الساحات والحرب الكبرى من جهة مقابلة، أي إمكانية أن تقع مواجهة متعددة الساحات، لكنها لا تنزلق إلى حرب مفتوحة تخرج عن السيطرة، وبالتوازي هل يمكن تكرار نموذج معركة غزة الأخيرة التي لم تعِد ترميم الردع، لكنها بحساب الأرباح والخسائر المادية والمعنوية، اختلفت عن سابقاتها لأن المبادرة وعنصر المفاجأة مكّنا جيش الاحتلال من تحقيق رصيد أرباح بقتل قادة أساسيين في بنية المقاومة، ورتب ذلك لقيادة الكيان فرصة تفادي المحاسبة الداخلية والمعنوية عن شروط غير موفقة لوقف إطلاق النار، والأهم هل يمكن تعميمها على غير ساحات، وخصوصاً لبنان، اذا كانت فكرة معركة متعددة الساحات قابلة للبقاء تحت السيطرة دون الانزلاق الى حرب مفتوحة؟
في قلب هذا النقاش اندلع السجال الحربي بين قادة الكيان السياسيين والعسكريين والمقاومة في لبنان. وفي هذا السياق يجب أن يقرأ كلام السيد نصرالله، حيث جاءت مناورة العبور التي نفذتها المقاومة بمناسبة عيد المقاومة والتحرير أمام حشود إعلامية لبنانية وأجنبية وتحوّلت الى حدث لبناني وعربي وعالمي، لتقول إن توازن الردع لم يعد نارياً فقط، مع اكتمال قدرة المقاومة في سلاح الصواريخ الدقيقة الذي يسبب الرعب لقادة الكيان، والجديد أنه اذا اندلعت أي مواجهة قادمة فلن تتوقف خلالها المقاومة عند حدود إطلاق النار، ومنها الصواريخ الدقيقة، ولن يبقى التهديد بالعبور تهديداً، بل إنه يتقدم اليوم كتهديد جدي، وهو ينقل الردع من معادلة تهديد أمن الكيان وقدرته على التحمل الى تهديد الوجود، والجغرافيا، وجاءت الردود الإسرائيلية تهديداً وتحذيراً من المخاطرة بما يتسبب باندلاع الحرب الكبرى.
لم يتحدث السيد نصرالله عن المناورة ولا تحدث عن العبور، فزاد من إرباك قادة الكيان، ولا تحدث عن معادلات الصواريخ، بل جعل محور خطابه فكرة واحدة، هي أن من يجب أن يخشى الانزلاق الى حرب كبرى هو الكيان وقادته، وهنا تندرج كل عناصر الخطاب كعناصر إسناد لفكرة الحرب الكبرى، التراجع والانشغال الأميركي، انقسامات الكيان، ضعف الجبهة الداخلية للكيان، مقابل التفوق العددي والمستوى المعنوي للعنصر البشري لمحور المقاومة، وتشكل هذا المحور كجيش وتماسك مكوناته مقابل تفكك المحور المساند مع فشل صفقة القرن ومسار التطبيع، وانتقال التطور التقني الذي كان سمة يحتكرها الكيان ليصبح ميدان تنافس بين الكيان ومحور المقاومة. وفي النهية تأكيد أن محور المقاومة يسعى ويستعدّ لهذه الحرب الكبرى، التي يجب على الكيان وحده أن يخشاها، وأن يدفع ثمن تفادي وقوعها، بالامتناع عن أي حماقة يمكن أن تؤدي إليها.
النقاش الآن في الكيان يقترب من النهاية لصالح القول، إن إنتاج نسخة لبنانية من نموذج معركة غزة الأخيرة هو الحماقة التي أشار إليها السيد نصرالله كمدخل يمكن أن يفتح باب الحرب الكبرى، وأن العبور بات أحد مفردات الردّ الجاهزة حكماً في المواجهة المقبلة، رغم أن السيد احتفظ بالغموض عمداً، فلم يقل هذه ولا تلك، وربما يفاجأ غداً بالقول إن زمن استخدام الأجواء اللبنانية في الغارات على سورية انتهى، وكل عملية حربية من أجواء لبنان سيتمّ التعامل معها كعدوان يستوجب الرد، عسى جماعة السيادة المستجدّة تفرح بذلك، خصوصا أن سورية قد لا تتأخر في أي مفاوضات مقبلة مع الحكومة اللبنانية عن طرح الملف المتصل بكيفية إغلاق الثغرات في الأجواء اللبنانية التي تهدد أمن سورية على بساط البحث.
كيف نستنتج ذلك؟ الجواب في استباق خطاب السيد بساعات بإعلان سحب التصعيد الذي خلفته تصريحات قادة الكيان بنفي مصدر رسميّ لوجود خطة حرب قريبة او خطر مواجهة وشيكة، خصوصاً مع حزب الله، فجاء خطاب السيد بمقدار ومقياس، ونسبة وتناسب، وبين السطور.
ناصر قنديل
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال