خلال الأيام الحالية، يشتعل الجدل السنوي في مصر حول مآل حرب العاشر من رمضان التحريرية، والتي انتهت بعدها رسميًا حالة الحرب بين مصر وكيان العدو، وخاصة في ظل تزامنها خلال العالم الحالي مع ذكرى مجزرة بحر البقر، المدرسة المصرية التي حرقت القنابل الصهيونية أطفالها حتى الموت. ويزيد وجع استعادة الحديث في ظل تراجع على كل صعيد، وسقوط في كل ملف، وانزواء أمام أي تحديات، ومسيرة طويلة من الخيبات، تركت درسها على الروح المصرية، والوعي المصري.
كانت الفترة التي تلت حرب أكتوبر هي واحدة من أخطر الفترات التاريخية لمصر، وطنًا وشعبًا، وصولًا إلى التأثير على كل شخص، وبشكل مجرد. وترجم الفشل العسكري في استعادة الأرض إلى ما توقعه الشهيد عبد المنعم رياض، رئيس أركان الجيش المصري، بأنه دون حرب طويلة يدفع الجميع ثمنها ويشعر بثقلها، وتستمر لفترة تتيح إعادة صهر الشخصية المصرية، فإن هذا البلد سيتحول إلى مرتع للسماسرة نهارًا والملاهي ليلًا.
وقد كان كل ما توقعه بالضبط.
فور ارتماء القيادات المصرية، السادات وكل من اختارهم لمشاركته في رحلة العار إلى القدس، فقط ضغط الكيان الصهيوني لكي يطيل أمد المفاوضات، ويترك بالتالي انطباعًا أنه لم ينسحب بسبب الحرب، لكنه انسحب عقب معاهدة الاستسلام، ثم دشن الكيان تواجدًا واسعًا في مصر، ورعى شبكة مصالح هائلة، من سياسيين إلى إعلاميين مرورًا بتجار كل موقف، والجميع يبحث عن ثمن مناسب، ولا يهم هنا ما الذي يبيعه.
ومن توقيع معاهدة كامب دايفيد، وإلى اليوم، يمكن رد كل كارثة مصرية إلى المنهج الذي سار عليه أنور السادات ومن تبعه من حكام، اختاروا الشرعية الأميركية والرضا الصهيوني، ونابذوا شعبهم العداء والكراهية والعناد، وفي مقابل الضحكات التي تزين لقاءاتهم الرسمية مع أي مسؤول صهيوني، فالصراخ والتهديد حاضر في الخطاب الموجه للناس، بغض النظر عن أية محاولات تمثيلية بائسة.
من مسلسل الديون الخارجية التي لا تبدو لها إلا نهاية وحيدة، هي الإفلاس، إلى استجداء معتاد في ما يخص كل ملف خارجي، وتراجع كامل أمام المصلحة الخليجية في أخطر ما يهدد مصر كوطن، وهو سد النهضة، وصولًا إلى قرار خروج الدولة من الفعل الاقتصادي اليومي، تاركة الحرية لرجال بيزنس الخراب في مص الدماء، وأخيرًا التعويض عن السياسة الحقيقية بسيناريوهات رمضانية متخيلة، لا تزيد المشهد كله إلا غرابة وبؤسًا، فوق بؤسه.
2 لا شيء يتغير غالبًا، لكن البعض لا يجيد قراءة التاريخ، ولا فهم اللحظة، ولا متابعة الكلمات المتناثرة على ألسنة الفاعلين الأساسيين في عالم اليوم، العالم الذي قد يشهد تغيرًا تاريخيًا، بدأنا في معاينة معادلاته الجديدة وقواه وقواعد اللعبة العالمية الجديدة، التي لا تزال في لحظة مخاض صعب وعسير.
ولأن اليوم هو الابن الشرعي للأمس، وليس لأية تمنيات أو دعوات، فإن اليوم في فلسطين – بالذات – كُتب بالمداد الوحيد القادر على تغيير التاريخ وكسر خطط السيطرة على الأرض العربية، وبالدماء كسر المقاوم الفلسطيني كل ما كان يخطط بليل لهذه المنطقة، انطلاقًا من احتلال شيطاني اعتقد واهمًا أنه أنجز عملية الوجود، وكان يتهيأ للتمدد والتسرب إلى كل العالم العربي.
بداية، فإن الوجه الجديد للانتفاضة الفلسطينية المباركة، ليس كما سبقها من انتفاضات، كانت تنشأ في أحضان الفصائل، بكل تناقضاتها والحساسيات الموجودة بينها، منذ عامين كاملين، وحين بدأ الإلحاح الإعلامي الأميركي على ما كانت تسمى “صفقة القرن”، لم تعد من كلمة مرفوعة سوى فلسطين، ولم يخرج أي شعار سوى من البحر إلى النهر، وانزوت جانبًا سنوات المفاوضات الاستسلامية الخانعة، وكنس الصمود الفلسطيني كل ما كان يروج للتهدئة من مباحثات ومفاوضات ولقاءات، ولم يبقَ غير الرصاص متحدثًا رسميًا وحيدًا باسم الشعب الفلسطيني.
رأي الفلسطيني، العادي جدًا وربما غير المنتمي إلى فصائل معينة، النتيجة الوحيدة المرجوة من المفاوضات والسلام مع العدو، ويحصد يوميًا المرار والحسرة على أرض تُبتلع ومستوطنات تُقام، وسلاح قاهر بيد الكيان لا يعطي إشارات قبل القتل، ببساطة أنتج خيار السلام أكبر سجن مفتوح على وجه الأرض، واستراتيجية قتل ينتهجها الصهاينة حيث تتظهر قصص الإبادة الجماعية والفصل العنصري.
وفي المقابل، عاين أيضًا القلب العربي النابض في فلسطين المدى الذي تستطيع المقاومة الذهاب إليه، وفق معادلة الدم والسيف، وبالقطع فإن أية مقاومة لا تستطيع أن تقدم ما تقدمه المقاومة في فلسطين إلا حين رأت نموذج فعل في لبنان، ثم كفاءة هائلة في التنفيذ وإبداع غير محدود في عملياتها بالعمق الصهيوني، اعتمادًا على مدد مادي ومعنوي، ألهم أفرادها وساندهم، حتى حافة البطولة وإلى درجة الشهادة.
3 تمامًا كان عبور عسكري أعقبته مفاوضات استسلامية مثل الهزيمة، فلا هو أصبح نصرًا واضحًا، بما يقتضيه من استرداد الثقة بالنفس وفرض الإرادة على العدو، ولا هو حتى تحوّل إلى درس بليغ يتعلم منه الناس ويعملون عقولهم في سلبيات ما جرى، للبناء عليها للمستقبل، فإذا بنهاية الطريق مع “الخيار الإستراتيجي والوحيد” قرار وطني مصادر، وثروة وطنية معروضة بأبخس سعر أمام كل مشتر، وسيادة وطنية منتهكة دائمًا وأبدًا، لا تثبت أمام خط أحمر أو أسود.
ولعل أخطر ما ثبته تمسك كل الأنظمة التي أعقبت أكتوبر 1973 باعتبار الحرب انتصار كاملًا، من أجل منح غطاء الشرعية والوطنية لهكذا حكام، أن الاحتفالات التي تجري في هذا اليوم تحاول طمس دمائنا، دماء أطفال بحر البقر وعمال أبو زعبل، وغيرهم كثير من ضحايا اليد الصهيونية الأثيمة، فأي حديث يخصم من النصر الخيالي يخصم كذلك من شرعية الأنظمة العسكرية.
وفي مقابل المصاعب الاقتصادية التي يعانيها لبنان، بفعل حصار أميركي وخليجي وحشي، يحاول كسر بيئة المقاومة اقتصاديًا، فإن الدولة التي انتظرت الرخاء واللبن والعسل الأميركي لم تجن في الحقيقة سوى الديون والفقر والتضخم، وحال بائس، قد يصعب على الكافر، وكتبت نهاية المسيرة أن نهاية اليد الممدودة إلى واشنطن هي الموت، والدول العربية لن تكون أبدًا من الحلفاء، بل هي في منزلة الأتباع مهما قدمت من خدمات ومهما بذلت من تنازلات، والمصير الوحيد للأنظمة التابعة هو التخلص منها قبل أن تطالب بأجرها، أو ثمن خدمتها.
أحمد فؤاد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال