قبل التعمّق في الأحداث التي تشهدها مدينة الحسكة السورية، لجهة التطورات المتعلقة بما يجري في سجون قسد، وهروب عناصر داعش، في مشهد أقرب إلى الهوليودي، لا بدّ من التنويه إلى ما قاله المستشار القانوني الأسبق في وزارة الخارجية الأميركية، برايان فينوكين، الذي أكد أنّ وجود القوات الأميركية في سورية “لا يستند إلى أسس قانونية، وينبغي على الإدارة والكونغرس العمل سوياً لمنع تحوّل براعة التفسيرات القانونية إلى ما أفضت إليه من توسيع نطاق الأعمال العدائية في سورية».
ويضيف فينوكين في مقال نشرته فصلية فورين أفيرز، مندّداً بذريعة محاربة داعش، أنّ «العمليات العسكرية الأميركية في سورية لا تندرج تحت بند مهمة مكافحة داعش»، مشيراً إلى أنّ «إدارة الرئيس أوباما لم تقدّم مستنداً قانونياً لغاراتها الخاطئة على القوات السورية بل استمرت إدارتا ترامب وبايدن في تكرار المبرّرات لمحاربة داعش، التي تتباين تفسيراتها في ما بينها».
وللتنويه، فإنّ فينوكين يشغل حالياً منصب مستشار في مجموعة «الأزمات الدولية»، وهو حصر انتقاداته لسياسة بلاده في البعد العملياتي ونصوص القانون الأميركي الصرف الذي يتيح للرئيس الأميركي التصرف عسكرياً في حال استشعر خطراً ماثلاً على المصالح والقوات الأميركية، وهو لا يتوفر في حال الاعتداء على سورية.
في ذات السياق، فإنّ مجلة “بوليتيكو” الأميركية كشفت في تموز ـ يوليو الماضي، أنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ستبقي نحو 900 عسكري أميركي في سورية بذريعة مواصلة دعم قوات سورية الديمقراطية وتقديم المشورة لها، لكن الهدف الأساسي من وجود هذه القوات هو لمنع الحكومة السورية من الوصول إلى حقول النفط والموارد الزراعية في شمال شرق سورية، والعمل على إعاقة إنشاء إيران ممرّ جغرافي يربط بين طهران من جهة ولبنان والبحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى.
ضمن ما سبق، وبالتوازي مع الأحداث التي تشهدها مدينة الحسكة في شمال شرق سورية، فإنه يبدو واضحاً، أنّ جوهر الاستراتيجية الأميركية حيال دمشق وحلفائها، تؤطره مشاهد عودة داعش، وبعبارة أدقّ، يبدو أنّ ورقة داعش ستعود لتدخل بعودتها، ما يمكن تسميته بالبازار السياسي والعسكري ضمن جغرافية الشمال السوري، وبذات التوقيت، فإنّ الاستراتيجية الأميركية في هذا الإطار تنطلق من بُعد واضح ومحدّد، هدفه تقويض مساعي دمشق وحلفائها، لاستعادة ما تبقى من الجغرافية السورية.
ضمن ما سبق، لا يُنكر أحد من المتابعين للتطورات السورية، أنّ الدولة السورية تمكنت وعبر خطوات سياسية وعسكرية متسارعة، من تقويض الخطط الأميركية في كثير من المسارات، ولعلّ مسرحية محاربة داعش بالذراع العسكري لـ واشنطن «قسد»، قد كُشفت فصولها وباتت واضحة للجميع، فـ بؤر داعش تنشط انطلاقاً من أماكن تواجد القوات الأميركية، إذ من الواضح أنّ حراك داعش في سورية ينطلق من شرق الفرات، عبر جيوب مبعثرة ومنتشرة ولا يُسمح لأحد الاقتراب منها.
في جانب آخر، لوحظ مؤخراً حركة الفرار الواسعة من سجون قسد، التي يقبع بداخلها قادة وعناصر داعش، فضلاً عن قيام مروحيات أميركية بنقل هؤلاء إلى وجهات مجهولة في عمق البادية السورية، ما يعني صراحة أنّ حالة الاستثمار بالعناصر الإرهابية عادت إلى الواجهة من جديد.
ما بين هذا وذاك، تسعى واشنطن من خلال هندسة مشهد عودة في سورية، إلى منع الدولة السورية من توسيع نطاق سيطرتها في شمال شرق سورية، فضلاً عن المحاولات التي تسعى من خلالها واشنطن، إلى الإبقاء على عوامل الضغط الميداني تجاه روسيا، ومحاولة عرقلة جُملة الاتفاقات التي حصلت مؤخراً بين دمشق وكردها، وفي هدف أبعد من ذلك، تسعى واشنطن إلى منع الدولة السورية من الاستفادة من الثروات النفطية، بما يؤسّس لجملة من الضغوط الاقتصادية على الدولة السورية، يمنعها من تأسيس واقع اقتصادي إيجابي، الأمر الذي يُمكن ترجمته عبر حالة من السخط الشعبي ضدّ الدولة السورية. وفي جزئية جغرافية، تحاول واشنطن كسر الجغرافيا السورية العراقية، لمنع لتشبيك بين دمشق وبغداد وضمناً إيران.
حقيقة الأمر، أحداث الحسكة السورية، وتمكن داعش من فرض سيطرته على بعض البؤر، في إطار مسرحية أميركية وباشتراك قسد، إنما يؤكد سعى واشنطن إلى تهجير المدنيين المؤيدين للدولة السورية، وفي مرحلة لاحقة، خلق بؤر إرهابية تكون منطلقاً لهجمات أوسع، تشمل مناطق انتشار الجيش السوري، وكذا ورقة ضغط على القوات الروسية في تلك المنطقة، فضلاً عن إعطاء ذريعة سياسية تستغلها أنقرة، لجهة العمل على توسيع نقاط انتشارها، تحت ذريعة منع تمدّد الإرهاب، وضمن كلّ ذلك، فقد بات واضحاً، أنّ واشنطن وكذا أنقرة وقسد وضمناً داعش، تجمعهم ذات القواسم المشتركة، لجهة خلط الأوراق في شمال شرق سورية، والتضييق أكثر فأكثر على دمشق وحلفائها، وبطبيعة الحال، فإنّ الآتي من الأيام، وربطاً بمجريات التطورات في الحسكة، فإنه سيكون لدمشق وحلفائها، تدخلاً لا نستبعد أن يكون عسكرياً.
د. حسن مرهج
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال