محزنٌ مشهد المتعاونين الأفغان مع القوات الأجنبية وهم يتوسّلون الجنود الغربيين من وراء الحواجز التي تحول بينهم وبين مطار كابول لإخراجهم من بلادهم، ومن بينهم رجال ونساء ممن فضلوا، أمام يأسهم من الفرار بجلدهم، تسليم أبنائهم وفلذات أكبادهم إلى جيوش الاحتلال لإبعادهم عن الأرض التي ولدوا فيها، وسيحملون الانتماء إليها مهما كانت الجنسيات التي ستمنح لهم، ليبقى أصلهم يذكّرهم بالخزي والعار الذي لحق بآبائهم. هؤلاء كانوا حتى قبل قرار القوات الغربية مغادرة أفغانستان، والذي بدأ تنفيذه تدريجيا منذ عام 2014، قبل حالة الهروب الكبير الذي نتابع اليوم مسلسله على الهواء مباشرة، منذ دخلت قوات حركة طالبان منتصرة العاصمة كابول، سادة بين قومهم، محميين ومرفهين، ومن بينهم من تلقّى الأوسمة والتنويه من قادة جيش الاحتلال متعدّد الجنسيات الذي جثم على صدر الأفغان منذ 2001، بداية الغزو الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية للدولة التي وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن بأنها “مقبرة الإمبراطوريات”.
هؤلاء المتعاونون، ومن بينهم من عمل مترجما أو سائقا أو طباخا أو مخبرا للقوات الغربية في أفغانستان، أصبحوا يعيشون اليوم في خوف، ليس بسبب سيطرة مقاتلي “طالبان” على الجزء الأكبر من البلاد، بما في ذلك العاصمة كابول، وإنما بسبب تخلي القوات الغربية عنهم وتركهم يعيشون في الخوف من انتقام “طالبان” وأنصارها الذين يعتبرونهم خونة. وعلى الرغم من أن الحركة أعلنت عن عفو عام عن كل من تعاون مع قوات الاحتلال خلال العقدين الماضيين، إلا أن أغلب هؤلاء يخشون من أن تتراجع الحركة عن وعدها هذا، وأكثر من ذلك يخافون من انتقام الناس العاديين الذين تأذّوا من الوجود الأجنبي على أرضهم.
مصير المتعاونين الأفغان مع قوات الاحتلال يذكّر بمآل مئات آلاف من الجزائريين الذين قاتلوا مع الاحتلال الفرنسي لبلدهم الجزائر أو تعاونوا معه، وعند استقلال الجزائر عام 1962 وجدوا أنفسهم منبوذين من جيش الاحتلال والمحتلين الذين حزموا حقائبهم وفرّوا عائدين إلى بلدهم، ومحتقرين وملاحقين من مواطنيهم الجزائريين الذين يعتبرونهم خونة. أطلق على هؤلاء المتعاونين اسم “الحركيين” وهو لقب كناية عن الخائن في الجزائر لنعت كل من ناصر الاستعمار، وقاتل في صفوف جيوشه أو تعاون معها، إبّان فترة الحرب الجزائرية التي سقط فيها مليون ونصف مليون شهيد جزائري. وبالنسبة لمن رحّلتهم فرنسا إلى بلدها أو تمكّنوا من الفرار بجلودهم من ملاحقة الجزائريين في عهد استقلالها، ظلوا يعيشون في مآوٍ، هي غيتوهات وفرتها لهم فرنسا، مهمّشين ومنبوذين داخل المجتمع الفرنسي الذي انتصر جزءٌ منه لصوت العقل وناصر الثورة الجزائرية. وعلى الرغم من حصولهم على الجنسية الفرنسية، ظلوا يُعاملون بمثابة مواطنين من الدرجة الثانية في فرنسا التي لم تعترف بخدمتهم لها إلا أخيرا في عهد الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، الذي كرّم 26 منهم فقط عام 2018، بينما كان يصل عددهم عند استقلال الجزائر إلى أكثر من مائة وخمسين ألف شخص. وعلى الرغم من مرور أكثر من ستين سنة على نهاية حرب التحرير الجزائرية، ما زال “الحركيون” يعتبرون خونة في الجزائر، ولا يستطيع أبناؤهم وأحفادهم العودة إليها.
مصير “الحركيين” الجزائريين هو نفسه الذي ينتظر المتعاونين الأفغان مع قوات الاحتلال، التي احتلت بلادهم طوال العقدين الماضيين. وربما سيكون مصير “الحركيين الأفغان” أسوأ من مصير نظرائهم الجزائريين، لأن المتعاونين الأفغان قليل من الدول التي تعانوا مع جيوشها تعترف بخدمتهم هذه، ومن حظوا بالاعتراف إما تُركوا لمواجهة مصائرهم في بلادهم أو تم نقلهم بالطريقة المهينة والمذلة للكرامة البشرية التي تابعناها خلال الأيام القليلة الماضية، سواء عندما كانوا يتعلقون بعجلات الطائرات العسكرية المغادرة بلادهم، أو عندما تم شحنهم مثل القطيع مكدّسين داخل طائرات عسكرية بدون كراس خاصة بنقل العتاد والمؤونة، وتم تفريقهم على مآو في عدة دول، قبلت استقبالهم مؤقتا، في انتظار أن تقرّر الدول التي خدموا جيوشها في مصيرهم المأساوي الذي سيورثونه حتما إلى أبنائهم وأحفادهم، ليظل يلاحقهم مثل لعنة طوال حياتهم، لا هم مواطنون كاملو المواطنة داخل البلدان التي ستعترف بهم، ومنبوذون وغير مرحب بهم في بلدهم الأصلي الذي خانوه وخذلوا شعبه.
مشهد المتعاونين الأفغان وهم يتوسلون الحماية من أسيادهم على أبواب مطار كابول درس وعبرة لكل المتعاونين مع الاحتلال، ولكل الخونة الذين يصطفّون إلى جانب المحتل والغازي بلدهم، فالاحتلال مهما يطول زائل، والغزاة مهما عمّروا راحلون. تلك هي حتمية التاريخ التي تأكدت أكثر من مرّة في تاريخ الشعوب المقاومة والمؤمنة بانتصار إرادة الحق مهما طال الزمان. تحقّقت في فيتنام وفي الجزائر وفي جنوب لبنان، وتتجسد اليوم مأساةً إنسانية تتكرّر في أفغانستان. وفي هذا الدرس عبرة لكل من يقف مع الظلم والظالمين، لأن الظلم، مهما طال، إلى زوال، تصديقا للآية الكريمة التي وعدت النبي محمد بالانتصار على من حاربوا دعوته في بدايتها وناصبوه العداء وهَجّروه هو وأنصاره خارج ديارهم، فجاءت الآية المطمئنة لكل المدافعين عن الحق في عز ظلمة الظلم: “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”، والفعل “زهق” يعني ذهب إلى غير رجعة، مثل الروح عندما تزهق إلى الأبد، وتترك الجسد فريسة لمصيره المأساوي تأكله ديدان الأرض.
المصدر: العربي الجديد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال