مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، تمكنت منطقة آسيا الوسطى لأول مرة من تحقيق هوية مستقلة دون هيمنة أي قوة أجنبية، وشهد العالم تشكيل خمس دول مستقلة هي طاجيكستان، تركمانستان، أوزبكستان، وقيرغيزستان وكازاخستان في آسيا الوسطى، وهذا كان بمثابة حدث مهم أدى لاستقرار كبير في منطقة آسيا الوسطى. ولكن منذ البداية أدت بعض المشاكل والتحديات المختلفة إلى تشكيل بنية شديدة الفوضى في المنطقة بحیث لم تؤثر نتائجها على السلام والاستقرار والتنمية في هذه المنطقة فحسب، بل كان لها أيضا عواقب وخيمة على الأمن وعلى مصالح المناطق المحيطة بها وتسببت في التنافس على وجود القوى في هذه المنطقة.
في البداية تجدر الإشارة إلى أنه خلال العقود الأخيرة، زادت الأهمية الجيوسياسية لآسيا الوسطى إلى حد أن بعض الخبراء يعتقدون أن مقولة "الأهمية الجيوسياسية للمنطقة تأتي من أهمية مواردها" أصبح يقابلها أن "الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة هي التي دفعت بالكشف عن موارد الطاقة في هذه المنطقة". في الواقع على الرغم من أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بذلت الولايات المتحدة الأمريكية، وبعدها بفترة من الزمن أوروبا أيضاً جهودًا كبيرة للعب دور مهم في آسيا الوسطى والقوقاز والبحر الأسود، إلا أن وجود ثلاث قوى عظمى في هذه المنطقة وهي الجمهورية الإسلامية الإيرانية والصين وروسيا، منعت هذا الدور السياسي والاقتصادي من التمادي، وكانت جهود روسيا والصين في هذا المجال ضمن أعلى المستويات لتحافظ على تبعية تلك الدول لها. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لعبت روسيا لسنوات عديدة دور الشريك الرئيسي والاستراتيجي لهذه المنطقة. لكن خلال العقدين الماضيين، ومع تغير السياسات الكلية للصين وزيادة دور الصين في النظام العالمي الجديد، نشهد تدريجياً حضور الصينيين وتفردهم في مختلف المجالات. وفيما يتعلق بآسيا الوسطى، منذ بداية مبادرة "الحزام والطريق" في عام 2013، زاد حضور الصين في آسيا الوسطى وترافق مع نمو متزايد.[1]
الآن، إذا أردنا مناقشة العلاقات بين البلدين الصين وروسيا، فلا بد أن نذكر أن الدولتين القويتين في الكتلة الشرقية تم الاعتراف بهما دائمًا كشريكين استراتيجيين لبعضهما البعض في اتفاقية غير مكتوبة، والتعاون بين هذين البلدين يتمتع بمستوى عالٍ جدًا من الدعم، وهي تلعب في الواقع دورًا تكميليًا في تنفيذ السياسات. لكن في المجال التجاري والاقتصادي، وخاصة العلاقة مع دول الجوار والمنطقة، فإن الوضع مختلف قليلاً. وفي الوقت الحالي تتركز المنافسة التجارية بين روسيا والصين على آسيا الوسطى، ويمكننا أن نرى بوضوح أن الصين حصلت على لقب الشريك التجاري الأكبر بين جميع دول آسيا الوسطى الخمس، وتراجعت روسيا إلى المركز التالي. وكما تظهر الإحصائيات الرسمية الآن، فقد حلت الصين محل روسيا باعتبارها الشريك التجاري الرئيسي لكل بلدان آسيا الوسطى الخمس، وأصبحت كازاخستان الدولة الأخيرة في آسيا الوسطى التي يتجاوز حجم مبيعاتها السنوي مع الصين نظيره مع موسكو.[2]
ومن الأسباب الرئيسية لهذا التغيير حرب أوكرانيا وتركيز روسيا على الفوز في هذه الحرب ووجود قيود غربية على التجارة والعلاقات مع روسيا. وتجدر الإشارة إلى أنه برغم فرض العقوبات الغربية ضد موسكو التي تسببت في تغيير قسري في الاتجاه التجاري لروسيا من أوروبا إلى آسيا ومناطق أخرى، إلا أنه من الناحية العملية، باعتبار أن روسيا ليس أمامها خيار سوى التوجه إلى بكين وبلدها القديم والتقليدي ويبدو أن روسيا فقدت قوتها التقليدية في التأثير في هذه المنطقة بسبب تراجع قوتها السياسية والاقتصادية.
على الرغم من أن الحقائق الجيوسياسية لآسيا الوسطى تتأثر بعوامل معقدة للغاية، وينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام لدور الجيران في تلك المنطقة، ولكن إذا أردنا أن نحلل هذه العلاقات بشكل مختصر وتأثير البلدين روسيا والصين في آسيا الوسطى، يجب أن نذكركم أنه منذ عام 2013، تزايد تواجد الصين في آسيا الوسطى، وفي الواقع، أصبحت الصين، بطريقة ما، الضامن للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في المنطقة وأصبحت روسيا الضامن للحفاظ على استقرارها الأمني، وحتى اليوم، مع الحفاظ على قوة روسيا الأمنية والعسكرية في المنطقة، فإن نفوذ الصين في النظام الاقتصادي لآسيا الوسطى يتزايد بسرعة عالية.
وبحسب العديد من المحللين، فإن تصرفات فلاديمير بوتين وشي جين بينغ في آسيا الوسطى توصف بعناوين مثل "تقسيم العمل" أو "تنافس الشراكة"، لكن من ناحية أخرى، يعتبرها بعض السياسيين والخبراء الآخرين أيضًا "تنافسًا استراتيجيًا". ومن الناحية العملية، فقد ارتبط ذلك بانتصار الصين بسبب تلاشي الوجود الروسي في المنطقة والتركيز على الصراع الأوكراني، وكذلك بسبب الوجود النشط والمتزايد للصين رغم أن الأمر يبدو صعباً على الكرملين بتخلفه عن الصين في التجارة مع آسيا الوسطى. وفي الوقت الحالي، تعد روسيا والصين الدولتين اللتين يتمتعان بحضور سياسي واقتصادي كبير جدًا في آسيا الوسطى وتحتفظ موسكو بعلاقات إنسانية وثيقة مع جميع دول آسيا الوسطى الخمس، ولها وجود عسكري خطير في المنطقة وقواعد روسية في طاجيكستان وقرغيزستان، فضلاً عن عضوية أستانا و بيشكيك ودوشانبي في منظمة معاهدة الأمن الجماعي،.[3]وعلى أية حال تعتبر روسيا حاليا "قوة متراجعة" في آسيا الوسطى، والصين دولة يتزايد نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال