منذ اندلاع النزاعات في أوكرانيا وحتى قبل ذلك كانت روسيا دائمًا قلقة من أن يتأثر فضاؤها الحيوي ومجالها الجغرافي الاستراتيجي من قِبَل الغرب والناتو. وقد زاد هذا القلق بعد الحرب الأوكرانية وتوسع حدود الناتو نحو روسيا مما وضع روسيا في ظروف معقدة تتطلب منها اتخاذ إجراءات متنوعة للخروج من هذه الحالة. حيث إن زيادة التعاون مع دول أمريكا اللاتينية تعد واحدة من هذه الإجراءات.
تحاول روسيا في سياق كسر الضغوط الجيواستراتيجية الضغطَ على الحكومة الأمريكية من خلال زيادة وجودها وتوسيع نفوذها في الفناء الخلفي لأمريكا، أي أمريكا اللاتينية. وفي هذا الإطار أبرمَ الروس عدة عقود جديدة مع فنزويلا في مجالات الطاقة والشؤون العسكرية والتعاون الاستخباراتي. ويأتي هذا الحدث في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة تعزيز قيمها الغربية في فنزويلا بهدف جذب الأطراف الموالية لها والتي ستعتمد عليها في هذا البلد.
الآن زادت روسيا نشاطها في فنزويلا أكثر من أي وقت مضى مما سيشكل تحديًا جديًا لأهداف أمريكا في البلاد وهي قضية يبدو أن الروس أيضًا يتطلعون إليها حيث يفضلون الانخراط في الصراع بالوكالة مع أمريكا في هذه النقطة من العالم بدلاً من خوض معركة مباشرة عند حدودهم.
في الواقع يبدو أن روسيا عند اختيارها لفنزويلا لتوسيع التعاون تسعى إلى إيجاد ورقة لعب قيّمةٍ للتفاوض مع أمريكا. ويدرك الروس أهمية أمريكا اللاتينية بالنسبة للولايات المتحدة والآن بدلاً من توجيه كل جهدهم للدفاع عن حدودهم الجغرافية يتخذون خطوات متعددة للمطالبة بالضغط على أمريكا. تسعى الحكومة الروسية من خلال هذه الإجراءات إلى إعادة الولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات لتتمكن من التوصل إلى اتفاق بشأن قضايا مختلفة.
يبدو أن نهج روسيا منذ البداية كان يتجه نحو محاولة التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة، وهو ما أكده بوتين منذ بداية الحرب الأوكرانية حين أشار إلى أن مفاوضات السلام يجب أن تتم مع أمريكا. وخلال هذه الفترة كانت الولايات المتحدة دائمًا تمتنع عن التفاوض مع روسيا بشأن الحرب الأوكرانية، حيث أنه كلما طالت الحرب كان ذلك نصراً لصالح أمريكا. لكن روسيا زادت في الآونة الأخيرة من استراتيجياتها الحربية الهجينة. وقد اتبعت روسيا هذه الاستراتيجيات بحساسية خاصة قبل الحرب المباشرة بين روسيا وأوكرانيا، لكن خلال الحرب ركز الروس أكثر على المواجهة المباشرة. و يبدو الآن أن روسيا عادت إلى نفس الأساليب الناجحة التي اتبعتها قبل عقود من الزمن، أي القتال في بيئة دون عتبة الحرب المباشرة مع المنافس الرئيسي الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك تسعى روسيا إلى تحديد المناطق المهمة بالنسبة لأمريكا من أجل اللعب فيها، إذ يدرك بوتين أن السبيل الوحيد لجذب أمريكا إلى طاولة المفاوضات هو تحدي مصالحها في شتى أنحاء العالم. لذلك تسعى روسيا إلى استهداف المناطق الرئيسية والهامة لتحدي المصالح الأمريكية، مما قد يجبرها على قبول التفاوض.
كما أن نهج روسيا لا يقتصر فقط على تحدي المصالح الأمريكية بأي ثمن بل هم يعرفون قواعد اللعبة جيدًا. وقد حاول الروس أن ينخرطوا في المناطق التي تواجه فيها الحكومة الأمريكية تحديات صعبة حيث تتمتع الحكومة الروسية وعمومًا حكومات الشرق بشعبية واسعة في تلك المناطق أو الدول. أمريكا اللاتينية هي واحدة من هذه المناطق فهي تحمل جذورًا مناهضة للأمريكية ولا يوجد نظرة إيجابية كبيرة تجاه الحكومة الأمريكية في معظم المجتمع وفي الوقت نفسه يمكن لروسيا من خلال حضورها التقليدي أن تمارس نفوذها في بعض دول هذه المنطقة.
لهذا خرجت روسيا من موقفها الدفاعي تجاه الحرب الأوكرانية وهم يسعون إلى توسيع أنشطتهم في سبيل كسر الحصار الجغرافي والقيام بإجراء دفاعي ضد أمريكا، إجراءٌ لا يزيد من الضغط على روسيا ولا يكون ضعيفًا لدرجة ألّا تفهم أمريكا رسالته. يجب أن نرى مدى استمرار لعبة روسيا وأمريكا التي أصبحت أكثر تعقيدًا وتوسعًا في الفترة الأخيرة وما إذا كان حضور ترامب يمكن أن ينهيها أم أنه سيعززها ويجر العالم نحو صراع جديد وتحدٍ آخر.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال