زيارة بايدن .. رشّ الملح على الجرح 32

زيارة بايدن .. رشّ الملح على الجرح

بدأ الرئيس الأميركي، جو بايدن، زيارته المنطقة بالإعلان أنه صهيوني، وقال له القائم بأعمال رئيس وزراء إسرائيل، يائير لبيد: بل أنت صهيوني كبير. ثم جاء البيان الإسرائيلي – الأميركي، الذي سُمّي استفزازاً “بيان القدس” صهيونياً بامتياز، ومتبنّياً الرؤية الإسرائيلية بشكل تام. ولم يخف بايدن أن الهدف الأهم والأول لزيارته، دعم إسرائيل سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وتكنولوجياً، والعمل ليس على تحقيق التطبيع لها وحسب، بل ودمجها في المنطقة. وعند قراءة البيان، يصعب على الإنسان إيجاد فرق كبير بين المواقف الإسرائيلية والأميركية، وكأنه أراد القول إن إسرائيل هي أميركا، وأميركا هي إسرائيل.

ويمكن تلخيص زيارة بايدن فلسطين والكيان الإسرائيلي وجدّة في النقاط الآتية:

أولاً – الدعم المطلق لإسرائيل، وتأكيد التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والاستعداد لزيادة الدعم العسكري الذي يصل إلى حوالى أربعة مليارات دولار سنوياً ملياراً جديداً.

ثانياً – الشيء الوحيد الذي استطاع إيجاده المصّرون على التمسّك بوهم التدخل الأميركي لإطلاق عملية سياسية، كان إشارته إلى أنه يدعم “حل الدولتين”. ولكن هذا “الشيء” يحتاج إلى تمحيص، فالبيان الأميركي الإسرائيلي، تحدث بصيغة طرفين متفقين في جميع النقاط، إلا في نقطة “حلّ الدولتين”، حيث لم يدعم الطرفان هذا الأمر، بل قال البيان إن بايدن وحده “يدعم ذلك الحل”. ومعنى ذلك أن بايدن لم يستطع أن يفرض على الحكومة الإسرائيلية مجرّد ذكر “حل دولتين”، واعتذر عنها باستحالة وجود عملية سياسية. ولكن هل هناك قيمة سياسية فعلية لما أعلنه بايدن عن تأييده “حلّ الدولتين”؟ بالقطع لا، لأنه في كل مرّة ذكر فيها “حلّ الدولتين” أصّر على الإشارة إلى أن ذلك هدف بعيد المنال، ولا يمكن أن يطبّق في القريب العاجل.

وإذا جمعنا هذا التأجيل المفتوح مع حقيقة أن بايدن لم يمارس، ولم يرغب في ممارسة أي ضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان الذي يلتهم كل ساعة، وكل يوم، إمكانية قيام دولة فلسطينية، مفترساً على رؤوس الأشهاد “حلّ الدولتين”، فإن الخلاصة الحقيقية لسياسة بايدن وإدارته إطلاق يد إسرائيل، ومنحها كل الوقت الذي تحتاجه، لتكريس منظومة الاحتلال، والأبارتهايد في فلسطين، والتغطية على ذلك بوهم عمليةٍ سياسيةٍ لن تحدُث، وتدخل أميركي لن يتم.

ثالثاً – حاول بايدن استبدال حقوق الفلسطينيين بوصفهم شعباً يسعى للحرية وتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال والتمييز العنصري، بقضايا حياتية يومية، تمثل حقوق إنسان أساسية، ولا تحتاج إلى جهد رئيس دولة كبرى كالولايات المتحدة، مثل حقّ الفلسطينيين في ساعات عمل أطول لإنهاء الازدحام القاتل على منفذهم الوحيد للعالم، الجسر المؤدّي إلى الأردن، أو حصولهم على خط 4G، وكأن الرئيس الأميركي قبل على نفسه أن يؤدّي دور ضابط إدارة مدنية في جهاز حكم الاحتلال العسكري، في منح الفلسطينيين بعض الفتات، مما هو حق إنساني لهم. وكأن الإسرائيليين أصرّوا حتى على إهانة بايدن، رغم ولائه المطلق لهم، في إطار تأكيد أنهم القوة المهيمنة والمسيطرة، إذ ساء وضع العبور على جسر الأردن بعد وعود بايدن بالفرج، حتى اختنق بالمسافرين وأغلق.

رابعاً – كان البيان الإسرائيلي – الأميركي نموذجاً للنفاق، إلى درجة أضحكتنا، وشرّ البلية ما يضحك، إذ تحدث البيان عن التزام الديمقراطية وحكم القانون. ولكن أين كان حكم القانون في التستر الأميركي على جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، وأين التمسّك بالديمقراطية مع استمرار معارضة الطرفين حق الفلسطينيين في انتخابات حرّة ديمقراطية، بما في ذلك في مدينة القدس المحتلة. وأين حكم القانون، في معارضة البيان المشترك لحقّ الفلسطينيين في اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية والقانون الدولي.

خامساً – واصل البيان المشترك أسلوب النفاق، عندما تحدّث عن حق إسرائيل في استخدام القوة لحماية ما سمّاها الديمقراطية (استمرارالاحتلال والأبارتهايد)، ولكنه قرّر حرمان الفلسطينيين حقهم في مقاومة الظلم والاضطهاد، إذ هاجم ليس الكفاح المسلح فقط، بل وأكثر أشكال المقاومة الشعبية سلمية، مثل حركة المقاطعة (BDS)، واللجوء للقانون الدولي.

ولم يكن ذلك معلم الانحياز الأميركي الوحيد، بل بدا جلياً في المغزى الرمزي لتخصيص ثلاثة أيام للجانب الإسرائيلي، مقابل أقلّ من ساعة ونصف ساعة للجانب الفلسطيني. كذلك بدا واضحاً في رفض السماح للصحافيين بطرح أي سؤال على بايدن لدى الجانب الفلسطيني، على عكس ما جرى في المؤتمر الصحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.

سادساً – كما أكّدت الأحداث، لم تكن الأهداف المركزية لزيارة بايدن تحقيق السلام، بل دعم إسرائيل أولاً، وتطبيق (وتوسيع) ما بدأه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بالتطبيع، والدمج، مع المحيط العربي على حساب قضية الشعب الفلسطيني، وفي محاولة لعزلها وتصفيتها، في إطار تطبيق “صفقة القرن”.

وبناء حلف عسكري + استخباراتي ثانياً، يضم دولاً في الخليج العربي وإسرائيل ودفع هذه الدول إلى صدام مع إيران، يدمّر مقدراتها، ويجعلها أسيرة للهيمنة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ويضيف ملياراتٍ جديدة، لأرباح المجمع العسكري – الصناعي في الولايات المتحدة وشريكه الأصغر إسرائيل، ومحاولة الحدّ من علاقات دول الخليج بأطراف أخرى كالصين وروسيا. وضمان تدفق إضافي من نفط المنطقة، ثالثاً، يساعد في حل أزمة بايدن الاقتصادية، بارتفاع أسعار الطاقة، وتصاعد التضخّم في الولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة منذ الثمانينيات، لإبعاد خطر السقوط المنتظر لحزب بايدن في انتخابات الكونغرس النصفية المقبلة، وربما الانتخابات الرئاسية أيضاً.

وهذه الأهداف لم تتحقق كما أرادت إسرائيل، وكما أراد بايدن. فباستثناء فتح أجواء الجزيرة العربية لإسرائيل، ضمن معادلة جزيرة تيران – مقابل الطيران، رفض المجتمعون في قمة جدّة فكرة التحالف العسكري جملة وتفصيلاً، وكانوا أكثر ذكاءً من أن يجروا إلى تدمير مقدّرات دولهم في مجابهة مع إيران، لخدمة إسرائيل، ولم يبدوا استعداداً لوقف تنويع علاقاتها الاقتصادية مع دول كالصين.

وعلى عكس التطبيع الموسّع والبرامج المنتظرة، فرضت فلسطين نفسها على القمة، من دون أن تحضر، فكانت الكلمات واضحة في التأكيد أن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة شرط مسبق لكل تطبيع، بل عاد التمسّك بالمبادرة العربية إلى الظهور، بعد أن هدرته بعض الدول بالدخول في تطبيع مع إسرائيل، وكان ذلك كله انعكاساً لإدراك معظم القادة والحكام المجتمعين لما تكنّه قلوب شعوبهم من مشاعر تضامن مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل. وفي موضوع التدفق النفطي، لم يحصل بايدن إلا على مواقف غامضة ربطت أي زيادة في الإنتاج بموافقة دول “أوبك +” بما فيها روسيا.

وللأسف، بدا الرئيس الأميركي ضعيفاً، بلا رؤية خاصة ببلده، في سياق اندفاعه وراء الرؤية والخطط الإسرائيلية، وبدا ضعيفاً في انحيازه المطلق إلى إسرائيل، وإطلاق يدها لتواصل الاحتلال والأبارتهايد، وبدا أكثر من ضعيفٍ في عجزه عن فرض الأهداف الأميركية في المنطقة، الذي وصفه الكاتب الإسرائيلي، تسفي برئيل، في مقاله بصحيفة هآرتس، بعنوان “بايدن اكتشف أن قواعد اللعبة الإقليمية تغيرت، يُصغون ولكن لا يُنفذون”.

ولم يرَ الشعب الفلسطيني في سلوك بايدن ومواقفه إلا رشّاً للملح على جرحه المفتوح منذ 74 عاماً، وتبديداً مفيداً لوهم المراهنين على دور أميركي لإطلاق “عملية سياسية”، ونهاية لحلم مَن ما زالوا يعيشون على أمل “مفاوضاتٍ” لن تتحقق، بعد فشل مشاريع التسوية والحل الوسط، على يد غول الغطرسة والتوسع العنصري الإسرائيلي.

 

المصدر: العربي الجديد

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال