يمكن القول إن الحماوة التي اتخذتها الحرب اليمنية مؤخراً، كان لها موجباتها المتعددة التي تتفاوت بين انزياح موازين القوى القائم في الداخل الذي خلفته معركة مأرب التي كانت واشنطن تراها معركة مصيرية ستؤدي خسارتها إلى خسارة الورقة اليمنية برمتها على طاولات التفاوض الممتدة ما بين فيينا وبغداد، وبين احتياجات اللاعبين الإقليميين والدوليين الفاعلين على الساحة اليمنية الذين ما انفكوا يسعون إلى تحسين مواقعهم في الصراع بعيد أن تلاشت الآمال الكبرى التي تمثلت في تقدير سعودي كان قد أبلغ رسمياً للأميركيين قبيل بدء العدوان ربيع العام 2015، والتقدير مفاده أن الأهداف من الحرب سوف تتحقق في غضون أسابيع قليلة من بدء العمليات، ولنا أن ندرك هنا ما جال في ذهن غرف صناعة القرار السياسي في واشنطن، عشية ذلك الإبلاغ، تجاه بساطة التقديرات السعودية التي قامت، ولا شك، على حسابات بدائية لا تتوافق وطبيعة الصراعات الحديثة، قوامها ليس جرد ما يمتلكه طرفا الصراع من جنود وعتاد فحسب، فمثل حسابات كهذه تصح لربما لمدة لا تتعدى الأيام، ثم يعقبها تداخل عوامل الصراع الإقليمية والدولية التي ستسارع للاستثمار في الحدث انطلاقاً من الأهداف والمرامي التي تريد لها أن تتحقق من خلال ذلك الصراع.
اليوم، وبعد ستة أعوام على بدء الحرب، يمكن القول إن هذي الأخيرة كانت تمثل حالة احتياج داخلية سعودية بالدرجة الأولى، والمؤكد هو أن ولي العهد محمد بن سلمان قد أرادها جسر عبور للوصول إلى العرش في ظل توازنات هشة داخل الأسرة الحاكمة، توحي بإمكان انزياحها بعيداً عن ذلك الوصول، وخصوصاً أن الراعي الأميركي لذلك العرش كان يبدي تقلبات في هذا الشأن من النوع المقلق الذي يتجاوز الاستثمار بالفعل، أي التقلب للحصول على تنازلات أو مكاسب، ليصل إلى حدود التفكير ببدائل يراها أكثر قرباً منه، أو هو يراها تحقق مصالحه بدرجة أكبر.
هذه الرغبة الجامحة، نقصد رغبة ابن سلمان، في الوصول إلى السلطة، كانت فرصة للاستثمار الأميركي، ومن خلالها راحت واشنطن تفكر في تجيير الثقل السعودي لمصلحة خلق فرز جديد للقوى الفاعلة في المنطقة، والمؤكد هو أن ابن سلمان، الممسك بصناعة القرار السعودي منذ العام 2015، راح يبدي استجابة كبرى للمطالب الأميركية في تحقيق ذلك الفرز، ظهر ذلك في التصنيف الذي ذهبت إليه الرياض لحزب أذل القوة الإسرائيلية وأعادها إلى حجم القمقم الذي هو حجمها الطبيعي الذي ستكون عليه إذا ما انقطع حبل المشيمة الذي يربطها بالغرب عموماً وبواشنطن على وجه الخصوص، فكان القرار بوضعه على لوائح «الإرهاب» السعودية، والهدف الواضح هنا لذلك الفعل كان يتمثل في نزع صفة الوطنية عن «حزب الله»، لكن المرامي الأبعد تصل إلى تغيير مفهوم العروبة، عبر التركيز على التحالف القائم بين الحزب وإيران للقول بأن نسيج الأول لا يعدو أن يكون جزءاً من القماش الإيراني، والأمر عينه يحدث اليوم عبر خطاب سعودي يصف «أنصار الله» باليمن بأنهم إيرانيون وليسوا عرباً، والجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن نظرة الأميركيين إلى هؤلاء، كما أكدتها وثائق «ويكليكس» في دفعتها الأولى، أنهم، أي أنصار الله، «بعيدون جداً عن إيران الشيعية، وأنهم أقرب إلى السنة، لكن الحرب السعودية عليهم دفعت بهم إلى قبول دعم النصير الإيراني»، وما ورد بين المزدوجين الصغيرين جاء في رسالة موجهة من السفارة الأميركية في صنعاء إلى وزارة الخارجية الأميركية كانت قد تسربت، من بين ما تسرب، في الدفعة آنفة الذكر.
لم تقم الرياض، على امتداد السنوات الثلاثين التي شهدت خروج «الأزمة الحوثية» إلى العلن، بأي محاولة لتفهم تلك الظاهرة التي ينتهج أتباعها المذهب الزيدي الذي يمثل حالة وسطى بين المذهبين السني والشيعي، ولا قامت الحكومات اليمنية بفعل يقارب هذا الفعل الأخير. يروي رئيس تحرير جريدة «الشرق الأوسط» المقربة من الرياض في افتتاحية العدد الصادر في 23 كانون ثاني المنصرم، أنه التقى الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح عشية توجهه لحضور القمة العربية التي انعقدت في سرت بليبيا عام 2010، وفي ذلك اللقاء سأله فيما إذا كان ينظر إلى ظاهرة «الحوثيين»، التي كانت قد أبدت سخونة لافتة في غضون الأعوام التي سبقت هذا التاريخ الأخير، على أنها جزء من الصراع الشيعي السني الدائر في المنطقة؟ أجاب الرئيس الراحل عن ذلك السؤال بأن الأمر لا يندرج في سياق «نزاع شيعي سني، بل يمكن القول إنه يندرج في سياق الترويج لمذهب جديد في المنطقة لإشغالها وإشغال المملكة السعودية تحديداً»، ولربما هنا يمكن أخذ وجهة النظر سابقة الذكر على محمل الجد شريطة أن يكون المكيال واحداً ليصبح السؤال التالي مشروعاً على الدرجة نفسها: ماذا عن المذهب الوهابي الذي تقول كل كتب التاريخ والوثائق إنه ولد نتيجة الترويج البريطاني له، وأنه جاء في أدبياته وشريعته متوافقاً مع المصالح البريطانية في المنطقة، والأهم من ذلك كله هو أن الوهابية لم تكن إلا سبيلا لتفرقة الإسلام وإضعافه، بل لم تكن إلا منبعاً لتصدير الفوضى والعنف وإراقة الدماء، وباعتراف أميركي مثله «قانون جاستا» الأميركي الصادر العام 2016، في الذي جاءت مقدمته لتشير إلى أن الفكر الوهابي كان الحاضنة التي خرجت منها المجموعة التي نفذت هجمات أيلول 2001 في نيويورك.
ربع مليون يمني قضوا حتى الآن فدوى لتثبيت ركائز عرش ابن سلمان، وعداد الدم لم يتوقف بعد، ولا مقدراً له أن يفعل عما قريب، طالما أن «فاتورة» الحساب لم يجر تسديدها حتى الآن، فعروبة اليمن اليوم هي بروح أنشط مما كانت عليه قبل 24 آذار 2015، أما نظيرتاها في سورية ولبنان، فقد استعادتا الكثير من الحيوية، مع تحفز واضح لبدء عملية الانشطار، وكلا الفعلين يشيران إلى أن «فاتورة» جاستا ستأخذ طريقها إلى دوائر التنفيذ.
قبضت الرياض ثمناً باهظاً لقاء هزيمة روح عبد الناصر القومية، والثمن تمثل في دور لم تكن ترتسمه حتى في أحلامها، والثابت هو أن تمدد الدور السعودي مطلع السبعينيات في القرن الماضي لم يكن يرتكز على أي من المقومات الطبيعية اللازمة لبروزه، وجل ما ارتكز عليه هو دعم أميركي وصل ذروته بإعلاء هنري كيسنجر لحاجبيه في مواجهة أوروبا معلناً بدء فورة النفط التي راكمت على ضفاف الخليج رساميل خيالية ساندت في نهوض ذلك الدور جنباً إلى جنب الدعم سابق الذكر.
اليوم لم تستطع الرياض تكرار سيناريو الستينيات، وهي بالتأكيد ليست على موعد مع قبض أثمان مشابهة، بل على العكس فهي تقف على كوة «الاسترداد» بدل كوة «الاستلام».
المصدر: الوطن
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال