سلاح الاستكبار الأمريكي.. فرض العقوبات للحفاظ على المصالح الإمبريالية 25

سلاح الاستكبار الأمريكي.. فرض العقوبات للحفاظ على المصالح الإمبريالية

قبيل اندلاع الأزمة الأوكرانية، كان واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى لفرض عقوبات على روسيا الاتحادية تحت ذرائع متعدّدة، منها ما يتعلق بالمعارض الروسي ألكسي نافالني، أو بذريعة حقوق الإنسان أو بسبب ما زعمته الاستخبارات الأمريكية عن “التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية 2016″، وسعت لجرّ الاتحاد الأوروبي لاتخاذ العقوبات نفسها، غير أن دول الاتحاد انقسمت في مواقفها، بسبب خشيتها على المصالح الاقتصادية، وكان من أبرز ما تسعى إليه واشنطن هو تجميد خط غاز “نورد ستريم2” الذي يعتبر، وفق ما وصفته صحيفة نيوريوك تايمز، “سقوطاً مدوياً لمشروع مارشال الاقتصادي الأمريكي الذي طُرح بعد الحرب العالمية الثانية، بادّعاء إعادة بناء أوروبا بعد الحرب، وربط الاقتصاد الأوروبي بالتبعية الأمريكية”.

مع اندلاع الأزمة الأوكرانية واستفحال تداعياتها، سعت الولايات المتحدة لإيقاع الأوروبيين بفخ العداء مع روسيا بحجة أنها تهدّد أمنهم القومي، وكان ذلك بارزاً في تهديد الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء استقباله المستشار الألماني قبل بدء العمليات العسكرية بالقول: “إن روسيا ستتحمّل المسؤولية، وستواجه عواقب وخيمة وسريعة إذا تدخلت عسكرياً”، وأضاف بصورة تؤكد التأثير الأمريكي على الدول الأوروبية وبموقف يؤكد على ضعف المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز بأن أميركا ستجمد العمل بـ”نورم ستريم 2”.

تاريخياً، شكلت العقوبات الأميركية على دول العالم سياسة عدوانية ثابتة ونهجاً استعمارياً دائماً برز في الحرب العالمية الثانية ضد كلّ من يرفض الدخول في بيت الطاعة الأميركي، مثل كوبا بعد الثورة الاشتراكية، وإيران بعد الثورة الإسلامية، وكوريا الديمقراطية، وفنزويلا، وسورية بعد الحرب فيها وعليها، والكثير من دول العالم الأخرى، فالعقوبات الأميركية على دول العالم وشعوبها هي أهم أدوات الضغط الأمريكي التي تعبّر عن استكبارها، لذلك هي تسعى لإحباط أي مشروع اقتصادي إقليمي أو دولي يشكل خطراً أو بديلاً عن النظام الرأسمالي.

هذه الروح الاستكبارية وصفها عالم الاجتماع الأميركي سيمور مارتن ليبست بـ”الخصوصية الأميركية”، معتبراً “أن القيم والنظام السياسي والتطور التاريخي للولايات المتحدة أمور فريدة من نوعها في تاريخ البشرية، وهي أمور في معظمها غير شرعية، ولذلك ترى أنه يحق لها أن تلعب دوراً قيادياً مميزاً على المسرح العالمي”.

ولكن يبدو من النقاط اللافتة في هذه السياسة الاستكبارية بأن الولايات المتحدة الأمريكية التي أجبرت ألمانيا على تجميد العمل في خط غاز السيل الشمالي المعروف بـ”نورد ستريم ٢” تعلن عبر رئيسها بايدن أن استراتيجيتها لا تتضمن فرض عقوبات على مصادر الطاقة الروسية، والسبب في ذلك يعود:

أولاً: إن أي استهداف عبر العقوبات للطاقة الروسية سيكون له ارتدادات سلبية وانعكاسات مؤذية للاقتصاد العالمي عموماً وللأمريكي خصوصاً، وهذا ما سيتيح للصين -المنافس الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة- إغراق الأسواق العالمية بما فيها الأسواق الأمريكية بسلع ذات تكلفة أرخص.

ثانياً: إن أي خطوة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أمريكية غير معروفة النتائج أو تكون متسرعة، قد تؤدي لتضخم وركود اقتصادي أمريكي وارتفاع في الأسعار وتدنٍ في مستوى المعيشة للمواطن الأمريكي، وهو ما سينعكس بشكل سلبي ومباشر على صناديق الانتخابات، سواء ما كان يتعلق بالكونغرس بشقيه النواب والشيوخ، أو تلك التي تتعلق بالانتخابات الرئاسية.

ثالثاً: من شأن استهداف الطاقة الروسية بالعقوبات الأمريكية أن يدفع موسكو لإيقاف تصديرها لأوروبا، وهو ما سيدفع أميركا نحو توريد موارد الطاقة الاحتياطي أو زيادة إنتاجها للحدّ الأقصى، ما قد يستتنزف احتياطها بشأن إنقاذ أوروبا على حساب الداخل الأمريكي، كما أن من شأن وقف توريد الطاقة الروسية لأوروبا بشكل مفاجئ، والمقدّرة بـ٤٠%، أن تدفع شعوب أوروبا للضغط على حكوماتها للتوافق مع روسيا وإيجاد حلول سياسية مستعجلة، وهو ما قد يعكس المقاربة نحو تقارب روسي أوروبي، وهذا لا يخدم الاستراتيجية الأمريكية، هذا إن لم نتحدث عن احتمال حصول الفوضى في أوروبا وتخلخل الاقتصاد وغيره من المظاهر المدمّرة.

رابعاً: لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية إيجاد مصادر طاقة وخاصة الغاز، كمصدر بديل للطاقة الروسية، وحتى لقاء بايدن بالأمير القطري لم تأتِ ثماره، وهذا الخيار تواجهه جملة من التحديات أبرزها:

الكثير من الدول المنتجة والمصدّرة للغاز كإيران وكازاخستان وغيرهما هي دول في صراع مع أميركا.
التكلفة الباهظة لنقل الغاز بشكل بحري أو عبر الشحن نتيجة طول المسافة الجغرافية وعدم وجود خطوط طاقة.
هذه هي أميركا التي تسعى بكل إمكاناتها للسيطرة على النظام الدولي، فهي ارتكبت مجازر لم يرَ التاريخ مثيلاً لها “هيروشيما وناغازاكي” ومحرقة فيتنام، وخاضت العشرات من الحروب في أقل من قرن لتعزيز هيمنتها، وشردت مئات الملايين وقتلت عشرات الملايين، وفرضت عقوبات اقتصادية في سياسة بلطجية ضد كل من يقف في وجهها ويرفض التبعية لها، ولكن الأهم من ذلك أن الغباء الأوروبي هو في تبعية مطلقة من دون تفكير خلف هذه البلطجة الأمريكية، ودون التفكير بتبعات ذلك.

في المقابل، إن أهم ورقة تلعبها روسيا في وجه أوروبا ودول العالم، هي أنها المنتج الأول للطاقة في العالم، ويعوِّل بوتين على حاجة أوروبا إلى استيراد الغاز الروسي، كونه منخفض الكلفة وسهل النقل، خصوصاً بعد اكتمال بناء خط “نورد ستريم2” الناقل للغاز الروسي إلى ألمانيا، ويعتقد بأنها لا تستطيع التخلي عنه لعدم وجود بدائل مناسبة.

لا شك أن الأزمة الأوكرانية ستتسبّب في إحداث إرباك اقتصادي عالمي، وإعادة الاصطفافات الدولية، ورفع أسعار النفط والغاز مؤقتاً، لكن الأضرار الأخرى الناتجة عنها خطيرة على الأمن العالمي، وخاصة إذا تطورت الحرب ودخلتها أطراف أخرى. صحيح أن العقوبات الغربية الواسعة النطاق التي أعلنت عنها الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وألمانيا وفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، سوف تلحق أضراراً هائلة وبعيدة المدى بالاقتصاد الروسي، لكنها لن تثني الرئيس بوتين. 

المصدر: البعث

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال