173
شكّلت حرب غزة في عام 2023 بين النظام الإسرائيلي والفلسطينيين نقطة تحول كبرى على الصعيد العالمي، وقد استطاعت هذه الحرب تسليط الضوء على القضية برمتها للعالم، وجعلت شعوب العالم تدرك استبداد وسطوة الصهاينة، وفي أماكن كثيرة أظهرت وحشيتهم التي لم تخفى على أحد. لا شك أن للإعلام دوراً هاماً في ذلك إذ تمكّن من كسر احتكار الأخبار والرقابة الشاملة التي كانت لصالح النظام الإسرائيلي، وكان ذلك كافياً لمن كان لديه ذرة من الإنسانية ليدرك أن إسرائيل بقيادة نتنياهو متوحشة واستعمارية.
أمريكا اليوم بلد متنوع وتعددي يضم شعوباً مختلفة وثقافات متعددة و لم تعد آراؤها السياسية مطابقة لأسلافها. لقد تحرر شعب الولايات المتحدة اليوم وخاصة جيل الشباب من احتكار وسائل الإعلام التقليدية بفضل الفضاء الإلكتروني وقوة انتشاره. وقد دفع هذا التغيير في النهج المجتمع الأمريكي الشاب إلى التفكير النقدي بشكل أكبر، ورؤية الأخبار من زوايا مختلفة.
في القضية الفلسطينية استفادوا أيضًا من هذا التوجه، وأصبحوا على دراية تامة بالمعلومات والأخبار الكاذبة الكثيرة التي تنشرها وسائل الإعلام التي تسيطر عليها جماعات الضغط الإسرائيلية. وهذا ما دفع الجيل الأمريكي الشاب إلى البحث والتدقيق فيما يحدث في الأراضي المحتلة.
في غضون ذلك أدت حملات دعم الطلاب في جميع أنحاء الولايات المتحدة إلى اجتماع معارضي ومؤيدي حرب غزة لمناقشة هذه الإبادة الجماعية والوحشية الهائلة، ولم يعد من الممكن حجبها[1]. ولعل نتيجة كسر هذا الاحتكار الإعلامي كانت حدثًا غير مسبوق، و تراجع كبير في شعبية إسرائيل بين الشعب الأمريكي لدرجة أن شعبية النظام انخفضت بشكل حاد في استطلاعات الرأي خلال العامين الماضيين. وصل هذا إلى حد أن رئيس الولايات المتحدة حذر القادة الإسرائيليين من أن استمرار العنف الجامح قد يكون له عواقب عليهم ويؤدي إلى انخفاض الدعم السياسي. على الرغم من أن إسرائيل لا تزال تحظى بشعبية تقليدية لدى الأمريكيين الأكبر سنًا والمحافظين، إلا أنها ليست شعبية بما يكفي لمواجهة جيل الشباب ودعم مصالح النظام[2].
لم يقتصر كسر الرقابة الإعلامية على رفع مستوى الوعي فحسب بل شمل أيضًا تمكين الشعب الأمريكي من فهم جماعات الضغط ذات النفوذ الصهيوني بشكل أفضل. سيؤدي هذا أيضًا إلى تنامي الشعور بالاشمئزاز من النظام الإسرائيلي على المدى البعيد، لأن أمريكا اليوم تعاني بالفعل من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية كافية، ودعم عشرات المليارات من الدولارات لإسرائيل أمرٌ غير مقبول لدى الجيل الأمريكي الجديد. هذا الجيل هو نفسه الجيل الذي صوّت لحكومته بشعار "أمريكا أولاً" والأولوية الرئيسية في البلاد وهذا سيُشكك في أسس الدعم طويل الأمد للنظام في السنوات القادمة.
على وجه الخصوص برزت فجوة واسعة بين الأجيال فيما يتعلق بالمعتقدات والقيم الأمريكية مما غيّر تمامًا أهمية القضايا بالنسبة للشعب الأمريكي. هذا يعني أن الدعم المطلق لحكومة لا تُفيد الشعب الأمريكي ودافعي الضرائب سيُكلّف ويُثير احتجاجاتٍ أكبر.[3]
علاوة على ذلك، تجدر الإشارة إلى أن ملاحقة المحكمة الدولية وطلب التحقيق في العنف والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين كانا بمثابة ضربة أخرى أدت إلى زيادة حساسية المؤسسات الإنسانية حول العالم.
في أمريكا أدرك الجيل الشاب الباحث عن الحقيقة من خلال مشاهدته صور الدمار والقتل الأبرياء، أن ما هو موجود في النظام الدولي الغربي ليس العدالة بل القوة والمصالح. قد تكون هذه القضية سببًا لإحباط الأجيال القادمة في الغرب وخاصة أمريكا من النظام الحالي في بنية العالم، حيث رأى الجميع أن المجرمين والمدانين دون أدنى شعور بالانزعاج أو الخوف من العقاب على أفعالهم، يبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على السلطة وفي الوقت نفسه، يتمتعون بدعم القوى الغربية الأخرى وحكوماتها المزعومة.
في الواقع إن ما يحرك اليوم الشباب الأمريكي سيكون شرارة نار عظيمة في المستقبل، لإن مستقبلاً ليس فيه أميركا هي الأولوية، فإن جماعات الضغط لن تتمكن بعد الآن من توفير الموارد المالية لحكوماتها فحسب، وإذا كانت سيادة القانون لا تستطيع معاقبة الأفراد المذنبين، فإن هذا الأمر لابد وأن يتغير لأنه بخلاف ذلك سوف يؤدي إلى تشكيل الفوضى على غرار أحجار الدومينو في جميع أنحاء الغرب وهو ما يعني نهاية أكثر من سبعة عقود من الهيمنة المطلقة للنظام القائم على المؤسسات الدولية في العالم.
محمد مهدي إسماعيل خانيان
[1] How Americans View the Israel-Hamas Conflict 2 Years Into the War | Pew Research Center
[2] Americans Grow More Divided on US Support for Israel | Chicago Council on Global Affairs
[3] US public opinion on Israel is changing, US policy will have to as well | Israel-Palestine conflict | Al Jazeera
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال