صفقة القرن الروسية التركية، عنوانٌ بدأ يعبر عن طبيعة العلاقة بين موسكو وأنقرة، وقد باتت المصالح الروسية التركية فوق كل اعتبار حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن بعض الحلفاء. كتبت صحيفة "وول ستريت" الأمريكية في مقال لها عن نقل عتاد ثقيل وأسلحة روسية بعد سقوط النظام في سورية بثلاثة أيام فقط. وقد تضمن هذا الخبر أن روسيا كانت تقوم بعمليات نقل واسعة لعناصر ومعدات عسكرية بما في ذلك الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي من قواعدها في سورية إلى ليبيا. وقد أظهرت تقارير الملاحة الجوية أن طائرات روسية غادرت القاعدة الروسية في سورية متجهة نحو ليبيا مما يؤكد أن موسكو كانت تخطط لنقل معداتها العسكرية مسبقاً قبل سقوط النظام في سورية. (1)
خلال تلك الفترة القصيرة كان من الواضح أن روسيا قامت بعمليات نقل لمنظومات دفاع جوي متطورة من طراز "أس 400 وأس300 " إضافة إلى تجهيزات عسكرية أخرى إلى قاعدة "الخادم" الروسية في شرق ليبيا. وكل هذه التحركات تشير إلى أن روسيا كانت تخطط لهذه الخطوة قبل سقوط نظام الأسد.
وعلى الجانب الآخر أعرب رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبد الحميد الدبيبة عن قلقه بشأن تعزيز الوجود العسكري الروسي في شرق ليبيا (2) ، حيث يعتبر ذلك تهديدًا لسلطته وللحكومة في الجزء الغربي من البلاد الذي يخضع بشكل ما للنفوذ التركي! وهذه الديناميات تعكس التوترات المتزايدة في الصراع الليبي وتطرح تساؤلات حول موازين القوى التي تتشكل في المنطقة.
في سياق منفصل، كان قد علق وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على الوضع في شمال شرق سورية مؤكدًا أن روسيا تتفهم المخاوف التي تساور أنقرة بشأن النفوذ الكردي على حدودها الجنوبية. هذا التصريح يدل على أن روسيا تؤيد تركيا في قضيتها ضد الأكراد الذين يحظون بدعم من الولايات المتحدة وقوات التحالف. ومن المثير للاهتمام أن روسيا التي يُعتقد أنها خسرت نفوذها في سورية بسبب دعم تركيا للفصائل المقاتلة، لا تزال تحتفظ بتواصل إيجابي مع أنقرة بل أصبح هذا التواصل يدل على مستوى عالٍ من التنسيق مما يشير إلى تفاهم مشترك حول الاستراتيجيات المقبلة.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه: هل خسرت روسيا فعلاً في مواجهاتها مع تركيا؟ الحقيقة تشير إلى عكس ذلك. فكلاً من روسيا وتركيا يظهران كطرفين رابحين، وقد وصل التنسيق بينهما إلى مستوى التحالف. لذا نجد أن الأحداث التي شهدتها الحدود بين أذربيجان وتركيا عام 2023 عندما استعادت أذربيجان الإقليم المتنازع عليه (اقليم كاراباخ) مع أرمينيا تدلل على استمرار القوة والنفوذ لكل من موسكو وأنقرة في المنطقة، فقد تخلت روسيا عن دعمها لأرمينيا وهذا أدى إلى تفوق أذربيجان حليفة تركيا على أرمينيا وانتزاع الإقليم منها (3)، هذه الأحداث توضح أن العلاقات الروسية التركية عميقة وأن التعاون بينهما قد يساهم في تشكيل تحالف واسع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
بالطبع هذا التحول يعكس كيف أن روسيا تتخلى عن حلفائها عندما يكون ذلك في مصلحتها، كما حدث في سورية مع نظام الأسد. فعندما تجتمع مصالح موسكو مع أنقرة لا تتردد في إلغاء دعمها لأي طرف آخر.
هذا الوضع يُظهر أن روسيا لا تتخلى عن مناطق نفوذها، بل تستبدلها بمناطق أخرى ذات مصالح أكثر نفعًا. فليبيا على سبيل المثال أصبحت ذات أهمية استراتيجية أكبر لموسكو من سورية. حيث أن الوضع الاقتصادي في سورية أصبح معقدًا للغاية وذات اقتصاد منهار وبلاد مقسمة بين دول وتحالفات أخرى مع إيران وأمريكا، بينما ليبيا تعد بلدًا غنيًا تمتلك شواطئ واسعة على المياه الدافئة وموقعًا جغرافيًا مناسبًا ويسمح لموسكو بالتوسع نحو إفريقيا.
تحكّم روسيا في ليبيا يمثل خطوة نحو تحقيق أهدافها في عمق القارة الإفريقية. إذ تُشير التقارير إلى أن روسيا إنشأت فيلق عسكري قوي هناك تحت مسمى "الفيلق الأفريقي"، (4) مما يعكس استراتيجيتها الطويلة الأجل في توسيع نفوذها في القارة السمراء. بالإضافة إلى ذلك فإن روسيا تراقب عن كثب الوضع في دول مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو بعد خروج النفوذ الفرنسي من المنطقة. وتقدم روسيا الدعم لقوات مسلحة معارضة في تشاد وعلى الحدود الجنوبية لليبيا، كما تدعم مناطق غرب السودان التي تقع على الحدود الليبية.
من جهة أخرى تعد الجزائر واحدة من أكبر الدول الإفريقية وأهم حلفاء روسيا حيث تسعى موسكو لبسط نفوذها على القارة الإفريقية بشكل تدريجي. وفي الوقت نفسه يبقى التركيز على دور تركيا في تعزيز مصالح روسيا في إفريقيا حيث تقدم تركيا دعمًا كبيرًا لروسيا في دول مثل النيجر والصومال ودول شرق إفريقيا مما يتيح لروسيا التوسع على حساب النفوذ التركي وهذا مايتم التوافق عليه حسب المصالح المشتركة فيما بينهم.
الخلاصة، يمكن القول بشكل بسيط إن العلاقة بين روسيا وتركيا في السنوات الأخيرة شهدت تنسيقًا وتخطيطًا متكاملًا يجري وفق مراحل مختلفة لتحقيق أهداف مشتركة بين البلدين. هذا التنسيق والتخطيط قد وصل إلى حد إبرام صفقة تُعتبر مربحة للطرفين. فقد تمكنت تركيا من تقسيم وتحجيم أرمينيا وبسط نفوذ حلفائها مثل أذربيجان على حدودها الشرقية. كما أن الوضع في سورية أصبح أقرب إلى المصالح التركية أكثر من أي وقت مضى. في المقابل تتمكن روسيا من تعزيز نفوذها في أفريقيا ودول الجنوب الأفريقي التي تُعتبر ذات أهمية كبيرة بالنسبة لها. ومن هنا نفهم الثقة التي أعرب عنها بوتين بشأن انتصاراته في تعاملاته مع تركيا فهو لم يهزم في سورية حيث لم يتعرض لخسائر تذكر خاصة عندما أصبح نظام الأسد منهاراً ولم يعد له أي اعتبار لدى القوى الكبرى.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال