ضعف أوروبا مقابل روسيا القوية 198

ضعف أوروبا مقابل روسيا القوية

لطالما كانت أوروبا قارةً قادرة على التقدم والتنمية بوتيرة متسارعة لأكثر من نصف قرن دون التفكير بالحرب، ولم يظن الكثيرون في هذه القارة أنه ربما بعد حربين عالميتين ستواجه هذه القارة حربًا مجددًا. لهذا السبب يبدو أنهم نسوا التاريخ ولم يُعروا اهتمامًا كبيرًا للقضايا العسكرية، إلا أن هذا الإهمال قد تغير بسرعة بعد بداية الحرب في أوكرانيا، حيث رأت الدول الأوروبية شبح الحرب عن قرب وبدأت في تعزيز قوتها العسكرية من جديد. لكن النقطة المهمة هي أن تمركز قوة أوروبا غالباً في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهي ليست قوة ضعيفة عسكريًا ولكن لماذا لا تزال تخشى الحرب، وخاصة الحرب مع روسيا في حين أن قوتها العسكرية وميزانيتها الدفاعية واحتياطياتها من الأسلحة تفوق قوة روسيا؟


يبدو أن القضية الأهم هي كيفية النظر إلى التهديد الروسي حيث لا يوجد نهج موحد واضح في أوروبا تجاه هذا التهديد. في الواقع لم يتوصلوا حتى إلى تفاهم مشترك فيما بينهم حول تعريف مفهوم هذا التهديد. قد يعتبرون روسيا تهديدًا حيويًا واستراتيجيًا في المرحلة الراهنة، إلا أن أخبار ومواقف القادة الأوروبيين تشير بوضوح إلى اختلافات عميقة في الآراء بينهم. يبدو أن روسيا لا تُشكل تهديدًا رئيسيًا لدول أوروبا الشرقية الأكثر اعتمادًا على موارد الطاقة الروسية، ويعتقدون أنها لا تُشكل تهديدًا ما لم تسعَ أوروبا وحلف الناتو إلى خنق نفوذ روسيا الجيوسياسي. وقد تبنت حكومة ميركل في ألمانيا هذا الرأي سابقًا وهو أن دمج روسيا اقتصاديًا في أوروبا سيُفسح المجال للتعاون الاقتصادي بدلًا من التهديد العسكري وهي تجربة نجحت لما يقرب من عقد من الزمان.[1]


لذلك ربما تكون المشكلة الأولى والأهم هي غياب رؤية مشتركة للتهديد الروسي بين القادة الأوروبيين مما يجعلهم غير متحدين. وقد طغى هذا التعدد في وجهات النظر بين القادة الأوروبيين أيضًا على عملية صنع القرار بشأن نوع وطريقة المساعدة المقدمة لأوكرانيا، ولعل قلة المساعدة المقدمة لأوكرانيا تُعزى إلى هذه الاختلافات الواسعة داخل أوروبا.


النقطة المهمة التالية التي تُفسر خوف أوروبا من محاربة روسيا رغم تفوقها العددي هي مناقشة التكاليف الباهظة للحرب وضغوطها الاجتماعية والسياسية.


لطالما سعت الدول الأوروبية إلى بناء نظام رعاية اجتماعية قائم على الخدمات الاجتماعية لمواطنيها. مع اندلاع الحرب في أوكرانيا وإرسال أوروبا مساعدات مادية ومعنوية إلى جبهة الحرب، انخفضت مؤشرات الرعاية الاجتماعية في أوروبا. يعود انخفاض هذه المؤشرات إلى عوامل عديدة بدءًا من سلسلة التوريد ونقص السلع وصولًا إلى أمور أخرى. لكن خفض الدول الأوروبية إنفاقها على الرعاية الاجتماعية لمساعدة أوكرانيا ليس بلا أثر في هذا الصدد فقد أثار هذا الأمر استياءً اجتماعيًا كبيرًا في أوروبا، وتزايدت الحركات المتطرفة في القارة الأوروبية.


في الواقع وفّر تراجع الرفاهية وارتفاع تكاليف المعيشة أرضيةً لنمو الحركات المتطرفة، التي تُعارض إلى حد كبير الحرب بين روسيا وأوكرانيا. لذلك إذا دخلت أوروبا في معركة مباشرة مع روسيا فهناك احتمال لانهيار بنيتها المجتمعية اجتماعيًا وسياسيًا، وقد دفع هذا الخوف بعض الدول الأوروبية إلى التردد في دعم روسيا أو خوض حرب معها.[2]


وهناك نقطة أخرى يمكن ذكرها وهي الخوف التاريخي من روسيا. فقد قدّمت الدول الأوروبية هذا البلد كتهديد كبير لأوروبا من خلال عملية رهاب روسيا على مر السنين. ويبدو أن هذه القضية قد تسببت في افتقار الأوروبيين إلى الثقة الكافية بالنفس للقتال. في الواقع لقد ضخموا روسيا لدرجة أنهم يعتقدون أنها تُشكّل تهديدًا كبيرًا للغاية.


إضافةً إلى ذلك، فإن غياب القيادة الموحدة إلى جانب تضارب مصالح بعض الدول حال دون توصل أوروبا إلى قرار موحد بشأن روسيا. إن هيكلية صنع القرار المعقدة والبيروقراطية في أوروبا والتي أبطأت من سرعة اتخاذ القرار، تعني غياب قيادة واحدة قوية تتولى شؤون الدفاع في القارة، وهذا يُمثل نقطة ضعف كبيرة لأوروبا.


لذلك فإن أوروبا على عكس ما تعتبره نفسها إحدى القوى العسكرية الرائدة في العالم، والتي تحظى بدعم حلف الناتو لا تستطيع التفكير في حرب مباشرة مع روسيا لأنها ستكلفها الكثير وهي تكاليف تدفعها بالفعل، مثل مشاكل اللوجستيات أو إفراغ مستودعات الأسلحة لدول مثل فرنسا وألمانيا دعماً لأوكرانيا. ونتيجة لذلك تُولي أوروبا اهتماماً أكبر لترويج دعاية حول نفسها وقوتها العسكرية، بحيث تتمكن من منع اندلاع الحرب وانتشارها من خلال التسبب في تكاليف صراع باهظة للأطراف الأخرى، وإنقاذ نفسها من هذا المأزق وهي مسألة لا يزال يتعين علينا أن نرى مدى نجاحها في المستقبل، ومع ذلك يبدو أن أوروبا ليست قوية بما يكفي ولا تملك القدرة على الدفاع عن القيم التي تدّعيها وخاصة في مواجهة موسكو.



أمين مهدوي


[1] /https://www.politico.eu/article/europe-thinks-the-unthinkable-retaliating-against-russia-nato-cyber-hybrid

[2] /https://brusselssignal.eu/2025/11/europes-paper-tiger-mightier-than-russia-yet-still-afraid-of-it


لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال