على الرغم من العقود الطويلة من التطور والتقدم في مجال المساواة بين الجنسين، تستمر قضية العنف ضد المرأة وسوء الأوضاع العامة لحقوق النساء في أوروبا كونها من القضايا المهمة والعاجلة في هذا الشأن، إذ تجتمع العوامل البنيوية والثقافية والتمييز العرقي أو الجنسي إلى جانب الإرث التاريخي لتشكيل معاناة النساء في أرجاء هذه القارة.
تُعدّ قضية انتشار العنف ضد النساء واحدة من التحديات الرئيسية التي تظهر بأشكال عديدة بما في ذلك العنف العائلي والاعتداء الجنسي والاتجار بالبشر. تشير الإحصائيات إلى أن واحدة من كل ثلاث نساء في الاتحاد الأوروبي قد تعرضت للعنف البدني أو الجنسي منذ بلوغها سن الخامسة عشرة، في حين لا يزال العنف من الشريك الجنسي أحد الأسباب الرئيسية لوفاة النساء. على الرغم من وجود أطر قانونية راسخة في العديد من البلدان الأوروبية في هذا الصدد، إلا أن تنفيذ هذه القوانين غالبًا ما يتعثر بسبب المواقف الثقافية المتجذرة والثغرات الأساسية. ويساهم التسامح الاجتماعي تجاه أشكال معينة من العنف الجنسي إلى جانب الصور النمطية التي تُعطي انطباعًا بأن التصرفات المؤذية هي أمر طبيعي في استمرار مثل هذه السلوكيات. هذه الوضعية تخلق ظروفًا صعبة للعديد من الناجين مما يجعلهم يشعرون بالعزلة ويفقدون إمكانية الوصول إلى العدالة.(1)
تلعب العوامل البنيوية أيضًا دورًا هامًا في استمرار العنف ضد النساء. فقد أوجدت عدم المساواة التاريخية في القوة والموارد بيئات تواجه فيها النساء عادةً اقتصاديات تعتمد على الغير. هذا الأمر بدوره يقيد قدرتهن على مغادرة المواقف المؤذية. سوق العمل في أوروبا رغم التقدم لا يزال يعكس تفاوتات جنسانية ملحوظة. فتعمل النساء غالبًا في وظائف ذات دخل منخفض وغير آمنة بحيث يتقاضين في الاتحاد الأوروبي متوسط أجور يقل بنسبة 13% عن أجور الرجال. يزيد هذا من تعرضهن للاستغلال وسوء المعاملة. وتشير هذه القضية إلى وجود فجوة هيكلية في أوروبا، حيث لا تزال هناك العديد من التحديات في المجالات الاقتصادية على الرغم من الجهود والقوانين الرامية إلى حماية المرأة.
إضافة إلى ذلك تعزز العوامل الثقافية من حدة هذه التحديات. ففي العديد من المجتمعات الأوروبية لا تزال الأدوار التقليدية للجنسين والمعايير الذكورية تؤثر على السلوكيات والسياسات. يمكن أن تؤدي الروايات الثقافية التي تؤكد على هيمنة الرجال وتهميش النساء إلى تعويد المجتمع على العنف القائم على الجنس. وغالبًا ما تعيق هذه الروايات الإصلاحات التقدمية بتعزيز التوقعات الاجتماعية التي تقول إن النساء يجب أن تتحملن العنف أو تعطي أولوية لوحدة الأسرة على حساب سلامتهن الشخصية. حتى في المناطق الحضرية المتقدمة حيث قد يوجد دعم قانوني أقوى يمكن ملاحظة بقايا التمييز الجنسي الثقافي في عدم رغبة المؤسسات في التعامل التام مع القضايا أو الاعتراف بنطاق العنف ضد النساء.(2)
أيضًا يؤثر التمييز المبني على الجنس والعنصرية بشكل كبير على وصول النساء إلى الحقوق والفرص. تُعتبر عوامل مثل العرق والهوية العرقية والوضع الاقتصادي-الاجتماعي ووضع الهجرة من النقاط الأساسية لفهم معاناة النساء المهمّشات. على سبيل المثال، تواجه النساء المهاجرات والنساء من ذوات البشرة الملونة في أوروبا غالبًا تمييزًا مضاعفًا. فهن يتعرضن ليس فقط للعنف الجنسي بل وهن أيضًا يواجهن التعصب العنصري الذي يقيّد وصولهن إلى الدعم القانوني والخدمات الاجتماعية والفرص الاقتصادية. تجعل هذه التعاملات التميزية الطرق المتاحة لهؤلاء النساء للهروب من العنف وأشكاله، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لها بات أكثر صعوبة بشكل ملحوظ.
على الرغم من هذه التحديات الشاملة، شهدت أوروبا خطوات هامة في السياسات والقوانين التي تهدف إلى حماية حقوق الإنسان للنساء.
هناك مبادرات مثل اتفاقية إسطنبول، المعروفة رسميًا باسم اتفاقية مجلس أوروبا بشأن منع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي، وفيها نقاط تحول مهمة في مكافحة العنف القائم على الجنس. تحدد هذه الاتفاقية الالتزامات القانونية كما تضع معايير للخدمات الداعمة واستراتيجيات الوقاية. ومع ذلك تستمر الفجوة بين التشريع والتنفيذ كقضية مهمة. في بعض المناطق تعرقل المقاومة السياسية والميزانية المحدودة وعدم الكفاءة البيروقراطية تحقيق هذه السياسات بشكل كامل مما يترك العديد من النساء بدون الدعم اللازم.(3)
بالإضافة إلى الإصلاحات القانونية تلعب منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية دورًا كبيرًا في معالجة هذه القضية. لقد حاولت هذه المنظمات زيادة الوعي العام ومحاسبة الحكومات في هذا السياق. غالبًا ما تقدم هذه المنظمات خدمات مثل خطوط الطوارئ والملاجئ والاستشارات القانونية،وتسعى إلى المزيد من الإصلاحات في السياسات والمعايير الثقافية. ورغم أن هذه الجهود أسفرت عن بعض التقدم إلا أن التحديات الكبيرة والعميقة لا تزال قائمة.
في النهاية بينما يتم الإشادة بأوروبا في كثير من الأحيان كمعقل لحقوق الإنسان والقيم التقدمية فإن التحديات المستمرة المتعلقة بالعنف ضد النساء والتمييز الجنسي والعوائق الثقافية تكشف عن واقع أكثر تعقيدًا. يدافع الاتحاد الأوروبي على المستوى الدولي عن حقوق النساء لكنه يواجه في الداخل قضايا راسخة بعمق ضد المرأة مما يدل على فشل واسع وعدم كفاية جهوده الظاهرة في إحياء حقوق النساء. ولسد هذه الفجوة من الضروري أن تعمل المجتمعات الأوروبية على إصلاح ليس فقط أنظمتها القانونية بل أيضًا الهياكل الثقافية والاقتصادية التي تساهم في استمرار عدم المساواة. إن معالجة هذه التحديات تحتاج إلى نهج شامل يجمع بين الإصلاحات القانونية والتغييرات الثقافية وتمكين النساء اقتصاديًا وذلك من أجل تحقيق مستقبل يضمن المساواة ويخلو من العنف الجنسي.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال