يخطئ التقدير دائمًا من يتوقف عند صورة، هي بطبيعتها لحظة مقتطعة ومختطفة من سياق الزمن والحوادث، يمكنها أن تكون شاهدًا ضمن شواهد، لكنها أبدًا لا ترتقي إلى مرتبة القول الفصل، كذلك يجرم في حق نفسه وغيره من يفوت مشهدًا كاملًا، جرى إعداده وتخطيطه وترتيبه خلال سنوات، ويحمل في داخله لغته الخاصة، ويكتسب غالبًا طابع العمل الخفي، وتلاحقه شبهة المؤامرة الكبرى دائمًا.
صورة الاحتجاجات الممولة في الشوارع الإيرانية، والتي يجري بثها دون انقطاع عبر أغلب وسائل الإعلام العربية، خلال بطولة كأس العالم التي تستضيفها قطر، وإعادة نشرها على مدار الساعة، وتعميمها على كل منصات التواصل الاجتماعي، واحتلال كل مقدمة نشرات الفضائيات، وتصدر الصفحات الأولى للوكالات والمواقع الإخبارية، يمكن وصفها بحرب إعلامية مكملة لما يجري على الأرض في إيران، عبر دعم خليجي محموم للجهد الأميركي المركز على تسخين الأحداث الإجرامية في الجمهورية الإسلامية، وضخ الوقود للحريق الهائل الذي جرى إعداده ودعم أدواته، طوال الفترة الماضية، وهي في النهاية لحظة توقف الزمن عندها بالنسبة للإعلام العربي، كجزء من لعبة أميركية تستهدف تشتيت الجهود وبث الفرقة والانقسام، وتصدير الحقد والإحباط إلى داخل الشارع الإيراني.
بينما جاء اجتماع “قمة” الأطراف العربية على هامش احتفالية انطلاق كأس العالم في قطر، لينتمي بالتأكيد إلى مشهد أميركي، هوليوودي الصبغة، أراد أن يعيد ترميم خطوطه ويسد ثغرات مخططاته، في مواجهة الجمهورية الإسلامية، بإعادة التنسيق والارتباط بين أنظمة كلها تعمل لصالحه، لكن لحظة تصفية الخلافات الظاهرية بينها قد حانت تمهيدًا للتركيز على المواجهة الكبرى.
وعوضًا عن استنزاف جهود وأصوات الحلفاء ضد بعضهم البعض، أصبحت أولوية لدى المشغل الأميركي أن ينخرط الجمع في خندق واحد ضد عدو واحد، وأن ينسقوا من أعلى المستويات إلى أدناها لصالح تبني الخطاب المطلوب، وبثه وإشاعته، في سبيل الاصطفاف الكامل مع الحرب الإعلامية الغربية التي تجري ضد إيران، وعليها وفيها.
ما يجري ببساطة هو إعادة إنتاج سنوات الربيع العربي الكئيبة، بالأدوات ذاتها وبالخطط التي سبق تجربتها ونجاحها، تفتيت الدولة وكسر إرادتها وتهديد وجودها هو المطلوب الأول، وهو ما يجري بأقل التكاليف، ودون شبهة تورط أميركي في حرب مباشرة، والدماء كلها من البلد المستهدف تنزف، والأوجاع والآلام تتوزع على المناطق، والحرائق تنتشر بطول الوطن وعرضه، يشعلها خونة الداخل، وينفخ في نارها أغبياء مغيبون، وتبدد فيها الطاقات الوطنية والإرادة والقيم، وتتركها كما تركت ليبيا وسوريا صعيدًا زلقًا.
تعيد الولايات المتحدة إنتاج أحدث مؤامراتها في الشرق الأوسط، ضد إيران، كما فعلت بالضبط في أحداث 2009، وبدلًا من إشعال مواجهة كبرى، قد لا تضمن نتائجها أو تملك آليات حصار نيرانها الواسعة، فهي تستعمل أدوات الداخل وعملاءه لفرض وتفعيل ما تريده من خطة التدمير الذاتي للدول، وهي أصعب وأقسى الحروب التي تخوضها الدول ضد الغول الأميركي، فلا العدو ظاهر جلي لاجتثاثه، ولا المواقع واضحة مثل الحروب كلاسيكية، ولا إمكانيات استخدام السلاح ممكنة دون حساب دقيق للتكلفة والعائد، وكلها في النهاية خيارات تحمل معنى الخسارة الوطنية.
والحقيقة الثابتة هي أن القيادة الإيرانية، ومن ورائها البلد كله، لا تملك في هذه اللحظات ترف الاختيار، ومن يقول بهذا فإنه ببساطة يكذب، ولا تستطيع أيضًا تجاهل المعركة القائمة أو تأجيلها، والتحالف الغربي الخليجي الواسع المتربص بها ينتظر على أحر من الجمر حركة غير مسؤولة أو خطوة ثقيلة غير محسوبة، ليجر البلد كله إلى حيث يريد وحيث خطط ونصب الفخ.
كان لافتًا أن يتحدث الإمام السيد علي الخامنئي في مطلع هذا الأسبوع عن أحدث تطورات هذه الحرب الأميركية/ العالمية المستمرة ضد الشعب الإيراني وثورته، وأن يحدد بالضبط قواعد الاشتباك والأهداف والآليات التي يستخدمها العدو الأميركي وأعوانه، وأن يستعين بتاريخ الثورة في مواجهة الولايات المتحدة وغيرها، وأن يكشف ما تدبره اليوم من مكائد وأفخاخ، تريد منها كسر الصمود الإيراني بوجهها وسلب قدرة المقاومة منها.
قال الإمام خلال استقباله حشدًا من أهالي أصفهان، يوم السبت الماضي، إن العدو المتربص لا يتوقف عن استهداف إيران، مضيفًا: “كلما كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أقوى، كلما ازدادت مساعي العدو لتوجيه ضربة لها”، ولعل الحرب الروسية – الأوكرانية، وما كشفته من مدى وعمق ما بلغه التصنيع العسكري الإيراني من رقي وتقدم، كان الحافز الأول والأهم لدول العدوان أن تعيد الكرة على إيران، لعلها تستطيع إنهاكها، مع استمرار الحصار المشدد والمستمر منذ قيام الثورة إلى يومنا هذا.
لكن ما أوضحه الإمام لا يكشف عن نجاح كبير سينتظر الخطة الأميركية الجديدة القديمة، لكسر الإرادة الإيرانية، أو تطويعها على الأقل، فقد بيّن سماحته أن “العناصر التي تقف وراء أعمال الشغب لم تتمكن من جر الناس للخروج إلى الشوارع، والآن تسعى إلى استمرار هذه الأعمال للضغط على المسؤولين، إلاّ أنّ هذه الأعمال ستنتهي، وكراهية أبناء الشعب ستزداد تجاه هذه العناصر، والشعب الإيراني سيواصل نشاطه وأعماله أكثر من قبل”.
ولعل الحرب كلها قد لخصها الإمام الملهم في جملة واحدة، تكشف عن هدف الصراع الأكبر ومآله، حين قال “كيف يمكن تحقيق التقدم؟ التقدم بحاجة إلى العديد من الوسائل، أهمها الأمل، لذلك يعمل العدو على زرع اليأس بين الشعب”، وهذا هو الهدف الأول والأسمى للإستراتيجية الأميركية، والتي تنطلق ليل نهار عبر الأبواق الإعلامية العربية في المنطقة، وتستهدف أول ما تستهدف زرع الإحباط وبث الشك وفرض التشاؤم وإشاعة مناخ البؤس والانكسار.
ما تخوضه إيران اليوم، وفي قلب مدنها، ليس حربًا أميركية ضدها، بل ضد المقاومة ككل، وما الانخراط الرسمي العربي والتركي في هذه الحرب، سوى شاهد على رغبة هذه القوى في تصفية مبدأ المقاومة كفكرة ونزع الإيمان بها من قلوب كل عربي وكل مسلم، والهدف هو تمكين الأميركي من هذه المنطقة كاملة، ومسخ هويتها وإلحاقها بالحظيرة الأميركية القذرة، وهي في ذلك تستحق كل جهد وكل جهاد لتبيان خطورتها وآثارها الهائلة علينا، كشعوب وأفراد. باختصار، إن هذه المعركة هي معركة وجود للشعوب العربية والإسلامية، قبل أن تكون أحدث حلقة في مواجهات الثورة الإسلامية وأميركا، وهي كافية لهذا السبب في حشد كل جهد ممكن وكل كلمة صادقة وكل عمل إيماني لكشفها وإسقاطها.
أحمد فؤاد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال